الندم العالمي على الهولوكوست

يدهشك تسابق عشرات الرؤساء والملوك والأمراء من قادة الغرب لحضور المنتدى الخامس للهولوكوست في إسرائيل. حجوا جميعهم إلى القدس الغربية ليعبروا عن حزنهم وندمهم عما فعله النازيون باليهود إبان الحرب العالمية الثانية. وكأن إبداء الأسف إزاء ما حدث في أوروبا قبل نحو ثمانين عاما، يمحوا الخطايا ويمنح صكوك الغفران ويثبت الولاء للإنسانية، وقبل كل هذا يقي من تهمة معاداة السامية التي يخشاها ساسة الغرب أكثر من أي ذنب أو جرم أو خطيئة.
ندم الغرب على الهولوكوست يشبه ندم الشيعة على يوم عاشوراء. في الحالتين ثمة محاولة مستمرة من النادمين للتكفير عن ذنبهم الذي تتوارثه الأجيال، وتزداد وطأته مع مرور السنين بدلا من أن تنقص. لا دخل للذين جاؤوا بعد الحادثتين في ما جرى عام واحد وستين للهجرة، أو في أربعينات القرن الماضي. وعلى الرغم من ذلك يحمل اللاحقون وزر ما فعله السابقون، ويواصلون الاعتذار عن الجريمتين ومعاقبة ذواتهم على ما اقترفه غيرهم وستبقى تداعياته مستمرة إلى الأبد.
لا تحمل هذه المقاربة أي بعد ديني ولا إسقاط تاريخي. المشترك بين الحالتين هو فقط الندم المستمر على فعل ماض، أما المختلف بينهما فهو أن نقمة الشيعة تقع على أنفسهم، في حين أن نقمة أرباب ذكرى المحرقة فتقع على العالم بأسره.
الشيعة يعاقبون أنفسهم على مقتل الحسين بن علي، حفيد الرسول، قبل نحو ألف وأربعمئة عام. أما حراس معبد الهولوكوست فلا يزالون يعاقبون البشرية جمعاء على ما فعله النازيون باليهود في ألمانيا خلال أربعينات القرن الماضي.
لن يكون التطهير العرقي مقبولا في أي زمان ومكان، وما فعله النازيون لليهود لا يمكن تبريره بأي نظرية كانت. تماما كما لا يمكن تبرير مذبحة الأرمن على أيدي العثمانيين، وعنصرية الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، وإبادة ميانمار للروهينغا، وقمع الصينيين لأقلية الأويغور، وجرائم داعش بحق الإيزيديين في العراق. كل هذا إرهاب يجب أن يحاسب المذنبون فيه، ويجب إحياء ذكرى ضحاياه سنويا، ولكن ليس من باب الانتقام المستمر لهم، وإنما على سبيل رفض هذا الإرهاب.
لقد تحولت ذكرى الهولوكوست إلى آلية انتقام غير منته لضحايا المحرقة النازية. آلية تبقي الكوكب نادما على ما فعله النازيون وساعيا للتكفير عن ذنبه إلى الأبد. جميع جرائم الإبادة التي عرفها التاريخ تحملت وزرها الدول التي نفذتها. إلا جرائم الهولوكوست تحمّلها العالم بأسره. إبادة اليهود في المحرقة هي وحدها التي سجلت على البشرية جمعاء، ويتحمل مسؤوليتها كل من ولد بعد الحرب العالمية الثانية. كل مولود بعد تلك الحرب يأتي للعالم مثقلا بالندم على تلك الإبادة.
الواقعية الوحيدة في تحول مظلومية اليهود إلى محكمة عالمية سياسية وقانونية ومالية وحتى أخلاقية، يمكن ذكرها في سياق سؤالين رئيسيين. هل كان اليهود ليحصلوا على دولة مثل إسرائيل لولا تحول الهولوكوست إلى لعنة لا يبطل مفعولها؟ هل كان لأقلية مثل اليهود، يقارب تعداد أفرادها في كل الكوكب خمسة عشر مليونا، أن تتمتع بكل هذا النفوذ العالمي لولا حراس الهولوكوست، وفرسان معاداة السامية الذين يشهرون سيوفهم في وجه كل من يقترب من اليهود؟
بدأ تكفير العالم عن ذنب النازيين بوعد بلفور البريطاني وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وهاهو الندم على الهولوكوست يتواصل كل يوم ويتجلى بدعم إسرائيل بالمال والسلاح والمواقف السياسية، وبإصدار تشريعات وقوانين تمنع التعرض لليهود في العالم بأي شكل كان. لأجل هذا يتطور تعريف تهمة معاداة السامية كل بضع سنوات، وقد باتت هذه التهمة اليوم تخيف ساسة الغرب ومثقفيه وصحافييه أكثر مما تخيفهم أكبر الفضائح المالية أو الأخلاقية أو المهنية.
رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو قال في المنتدى الخامس لذكرى الهولوكوست إن الشعب اليهودي تعلم دروسا من المحرقة النازية، وفي مقدمتها الاعتماد على النفس في مواجهة الخصوم. لا يرى نتنياهو ما فعله ويفعله العالم لليهود كافيا حتى اللحظة. وقف يطلب المزيد ويقول إن اليهود لا يزالون يخشون عودة التاريخ وتكرار الهولوكوست. الحضور النادم على المحرقة طبعا أصغى جيدا لنتنياهو، وقبل أن تطفأ أضواء قاعات المنتدى في القدس الغربية أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن ولادة خطته للسلام الفلسطيني الإسرائيلي خلال أيام. فماذا سيحمل يا ترى الاعتذار العالمي الجديد لليهود عن الهولوكوست؟