الناقد الثقافي المعاصر

تتميز بعض الكتابات التي تتناول القضايا الثقافية في بلداننا بأنها تدرس الظواهر الثقافية من الخارج مثل التركيز في الغالب، مثلا، على التأريخ لمراحل تشكّل ثم ظهور هذه السمة الثقافية أو تلك السلسلة من القيم الاجتماعية وكذا مختلف أشكال التعبيرات الثقافية في مجتمعاتنا، أو على دراسة الشعر والقصة والمسرحية والرواية وفنون الموسيقى والغناء والنحت وغيرها.
بطبيعة الحال فإن هذا النوع من دراسة الظواهر الثقافية مهم ومفيد ولكن يبدو واضحا أن الناقد الثقافي الجديد، في نموذجه الغربي المعاصر، قد تجاوز كل هذا إلى أفق آخر من النقد الثقافي الذي لم نكن نعرفه من قبل.
إن الناقد الثقافي الجدير بهذا اللقب يضطلع، مثل الفيلسوف الحقيقي، بمهمة نحت مصطلحاته ومفاهيمه التي يخترعها أو يسحبها من حقل فكري أو علمي ما إلى مسرح ممارسته الثقافية النقدية، ويركز بشكل حاسم على ما يسمى بفكرة الثقافة المحورية التي تربط وتحدد سمات جميع مفاصل هذا المجتمع أو ذاك في إطار تاريخي معيّن مثلما يعمل على إبراز تباينها مع فكرة الثقافة في مجتمع آخر له خصوصيات مختلفة.
من بين نماذج هذا النوع من النقاد الثقافيين نجد الناقد الثقافي البريطاني ريموند وليامز الذي يدرس في الكثير من المؤلفات البارزة ما يمكن أن ندعوه بالنسق المتحكم في تقرير مصير البنية الهرمية للمجتمع. وفي تقديره فإن ظهور كلمات معينة في حقبة معينة ليس أمرا شكليا بل هو تعبير عن حدوث تحول راديكالي في القيم والذهنية والموقف لدى أفراد ذلك المجتمع ذاته.
إنه يرصد، مثلا، ظهور كلمات مثل الصناعة، والديمقراطية، والطبقة، والثقافة حيث يبرز أن ظهورها في بلاده ليس مجرد نتيجة لتحويرات صرفية أو نحوية اعتباطية أو بغية استحداث قاموسي شكلي وإنما هو نمط من التغيير الذي حدث في مفاصل المجتمع وبالتالي فهو التعبير عمّا يسميه بمعاني البنية الحديثة لهذا المجتمع.
على أساس ما تقدم فإن مهمة الناقد الثقافي الأساسية تتمثل في الكشف عمّا يدعوه أيضا ببنية المشاعر التي بدأت تتشكل في المجتمع مع معاينة الشروط التي أنتجتها فضلا عن البحث في أسباب اختفاء بنية المشاعر السابقة التي حلت محلها.
في هذا السياق يلاحظ المرء، مثلا، أن كلمة الديمقراطية التي ليست مجرد كلمة فضفاضة وإنما هي معمار ثقافي كامل نجدها تتردد في الكثير من الكتابات العربية حيث يزعم أصحابها أنها مرادف طابق للأنساق السياسية والثقافية في مجتمعاتنا، ولكن فحص واقعنا يؤكد لنا أن هذه الكلمة مقحمة إقحاما على واقع لم ينتج بعد الوازع الأخلاقي الديمقراطي الذي هو الشرط الضروري لإنتاج النفسية الجديدة للإنسان وسلوكه اليومي.