"المياه الداكنة" و"التقرير" فيلمان من معطف سينمائي واحد

فيلمان خرجا حديثا من معطف السينما الأميركية، يشتركان في سمات واحدة، أهمها الهاجس السياسي، تعرية “المؤسسة”، وفضح الانتهاكات التي تتعلق بحياة المواطنين داخل الولايات المتحدة وخارجها، كما يجمع بينهما، استنادهما إلى أحداث وشخصيات حقيقية.
الفيلم الأول هو “المياه الداكنة” Dark Waters للمخرج تود هاينز الذي سبق أن أتحفنا بفيلمه الشهير “كارول” الذي قامت ببطولته كيت بلانشيت ورونيمارا، والفيلم الثاني هو “التقرير” The Report أول أفلام كاتب السيناريو المعروف سكوت ز. بيرنز الذي كتب السيناريو لعدد من أفلام المخرج ستيفن سودربرغ هي “المرشد” و”العدوى” و”أعراض جانبية” و”المغسلة”.
يتميز الفيلمان بالخروج عن السائد المألوف، والاشتباك مع المؤسسة الاقتصادية- السياسية، وتعرية التستر الرسمي على التجاوزات التي تضر بسلامة المجتمع.
يعتمد سيناريو فيلم “المياه الداكنة” على مقال نشر في صحيفة “نيويورك تايمز” في 2016، بعنوان “المحامي الذي أصبح كابوسا عالميا لشركة ديبونت”.
هذا المحامي هو روبرت بيلوت (الذي يقوم بدوره في الفيلم مارك روفاللو). وهو محام طيّب القلب، ورب أسرة، كان ضمن فريق العمل في شركة الشؤون القانونية التي تعمل لحساب شركة “ديبونت” للمواد الكيميائية، التي أسسها في واشنطن في القرن التاسع عشر، رجل فرنسي، ثم تشعبت وتفرعت إلى شركات عديدة وأصبحت أكبر احتكارا لإنتاج منتجات ومشتقات الكيميائيات في العالم، وفي 2013 فقط، حققت الشركة أرباحا قاربت 5 مليارات دولار.
ماهي مشكلة “ديبونت” إذن؟ أو تحديدا ما مشكلتها مع هذا المحامي البسيط الذي يعمل لحسابها ويبدو شديد الإخلاص لها؟ كيف أصبح خصما ينازلها ويسبب لها الأرق والصداع ويكلفها الكثير من الوقت والجهد والمال؟
روبرت بيلوت يلتقي ذات يوم من عام 1998، بمزارع بسيط متقدم في العمر، جاء إلى مكتبه بسبب معرفته بجدة بيلوت التي تقطن في نفس البلدة التي يعيش فيها أي “باركنسبيرغ” بولاية ويست فيرجينيا. لقد جاء إلى بيلوت يشكو له كيف أن شركة “ديبونت” ردمت آلاف الأطنان من المواد السامة بالقرب من مزرعته مما أدى إلى تسميم
أغنامه وأبقاره، والقضاء التام على مزرعته. يريده الرجل أن يتدخل ويفعل شيئا.
تبدو القصة في البداية مبالغا فيها كثيرا. ولكنها تكون كافية لكي تجر قدم المحامي الطيب القلب، المثالي النزعة، إلى زيارة المزرعة حيث يرى بنفسه كيف تموت الأبقار، وكيف أن المزارع قد فقد نحو مئتي رأس من الماشية. ويتسع نطاق الأمر ليشمل بعد ذلك مياه المنطقة بأسرها بل والأضرار التي تصيب الولايات المتحدة بأسرها.
رحلة البحث
يبدأ المحامي البحث والتنقيب، وتدريجيا يجد نفسه على الجانب الآخر، أي يواجه شركته نفسها ويتحداها أمام القضاء بل ويكسب إلى جانبه أيضا رئيسه المباشر في شركة الشؤون القانونية. وهو يعود خلال بحثه أربعين عاما إلى الوراء، بعد أن يكتشف وجود اسم مادة كيميائية غامضة في وثائق الشركة التي يحصل عليها بأمر القضاء، سيتضح له أن الشركة تستخدمها بانتظام منذ الأربعينات، وهي تعلم جيدا أنها مادة سامة قاتلة.
ومع ذلك استمرت في استخدامها على نطاق واسع بسبب رخص تكاليف إنتاجها. وينجح المحامي المثالي الذي لا ينصاع للتهديدات، في إدانة الشركة، والتحذير من ممارساتها علانية تماما مثل أي “نافخ للصفارة” عرفناه على مدار أكثر من 40 عاما من تاريخ السينما المعاصرة، منذ فيلم “كل رجال الرئيس” ثم “أعراض صينية” و”سليكوود” و”إيرين بروكوفيتش” و”أسرار رسمية” وصولا إلى فيلمنا التالي الأحدث “التقرير”. والغالبية العظمى من هذه الأفلام تستند إلى وقائع حقيقية.
البحث عن الحقيقة
في “التقرير” يقوم الممثل آدم درايفر بدور “دانييل جونز” الباحث لدى لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي. وهو يكلف في 2009 بقيادة فريق لتقصي الحقائق ثم إعداد تقرير شامل بتكليف من رئيسة اللجنة السيناتورة ديان فينيشتاين (آنيت بيننغ) بشأن ما يمكن أن يكون قد وقع من تجاوزات تتنافى مع القانون الأميركي الذي ينظم المخابرات المركزية، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
يستغرق البحث والتنقيب خمس سنوات كاملة، يفحص خلالها جونز وفريقه، أكثر من ستة ملايين وثيقة، ويستمع إلى الكثير من الشهادات ليس من بينها بالطبع شهادات ضباط المخابرات الذين قاموا كما سيكتشف، بإتلاف شرائط كانوا قد سجلوا عليها وقائع الاستجواب الذي كان يجري تحت التعذيب، وينتهي مع فريقه من كتابة تقريره الذي يقع في 7 آلاف صفحة، كاشفا الكثير عن أساليب التعذيب التي مارسها ضباط المخابرات المركزية على عدد كبير من الذين تم اعتقالهم في أفغانستان وغيرها، وثبت أن معظمهم لم يكن يتعين من الأصل اعتقاله واستجوابه عما لا يعلم، ثم كيف ثبت أن هذه التجاوزات التي يعرضها الفيلم بالتفصيل، من الإغراق بالماء والإيحاء بالإعدام، والضرب على الأعضاء التناسلية، وإدخال آلة ضخمة في فتحة الشرج، والحبس في غرفة ضيقة مع تشغيل الموسيقى الصاخبة العالية طوال الليل والنهار للحرمان من النوم، لم تفلح في تجنيب الولايات المتحدة هجمات أخرى كما تزعم المخابرات المركزية الآن بعد أن أصبحت تجاوزاتها تحت الضوء.
يكتشف دانييل جونز دور الذين يُطلق عليهم "المقاولون"، وهم المتعاونون من الخارج الذين يبتكرون وسائل خاصة في التعذيب، من بينهم طبيب نفساني، كما يكتشف وجود "السجون السرية" خارج الولايات المتحدة، وعمليات النقل السرية التي وقعت
يكتشف دانييل جونز أيضا دور الذين يُطلق عليهم “المقاولون”، وهم المتعاونون من الخارج الذين يبتكرون وسائل خاصة في التعذيب، من بينهم طبيب نفساني، كما يكتشف وجود “السجون السرية” خارج الولايات المتحدة، وعمليات النقل السرية التي وقعت، وكيف أن الوسائل التي استخدمتها المخابرات المركزية في التحقيقات، فشلت في دفع من تعرضوا للتعذيب والاستجواب في الإدلاء بأي معلومات صحيحة، وهو ما اعترفت به المخابرات نفسها في تقاريرها السرية، ثم أنكرت وأخفت التقارير عن جونز حينما جاء وقت الجد. أما رئيسة جونز “ديان فينيشتاين” -التي تقوم بدورها آنيت بيننغ ببراعة كبيرة- فسوف تطلب منه اختصار التقرير إلى 400 صفحة فقط، وعندما تتحدث إلى الرئيس أوباما عن التقرير، يبدو راغبا في إغفاله تماما، فهو يشعر -كما يقال في الفيلم- بأنه مدين لوكالة المخابرات المركزية، بحصوله على فترة رئاسية ثانية ولا يريد بالتالي أن يصطدم معها. لكن السيدة ديان توافق في نهاية المطاف على إذاعة التقرير على أعضاء الكونغرس. ولكن من الذي سيدفع الثمن؟
يتشابه الفيلمان إلى حد كبير يقترب من التطابق في نمط البناء وأسلوب السرد، فكلاهما يعتمد على بطل، أبيض، ينتمي للطبقة الوسطى الأميركية، يمكن للمشاهد الأميركي التماثل معه. وهذا هو البطل الأميركي، الليبرالي، الذي يتحلى بالقيم الأخلاقية والمثل العليا، ويصبح تدريجيا كلما اكتشف مدى “فساد المؤسسة”، وتوغل داخل ملفاتها وأسرارها، أكثر تمسكا بالمضي قدما حتى نهاية الشوط مهما كلفه الأمر، ومهما كان الثمن الذي يتعين عليه أن يدفعه. وهو هنا بطل “أخلاقي” مثالي، وليس ثوريا، فكل ما يسعى إليه هو مجرد “الكشف” والإصلاح، وليس التغيير الجذري. وهو يعمل من داخل نفس المؤسسة، يؤمن بقيمها، وبضرورة “ترشيدها” و”تقويمها”.
ثانيا، يستند الفيلمان على البناء المتعرج أو غير الخطي، الذي يظل ينتقل بين الماضي والحاضر، يستدعي الكثير من الصور والوقائع التي تصطبغ بألوان مميزة، تتناقض مع الألوان التي تميز الصور التي تدور في الزمن المضارع. وهي حيلة تقليدية قديمة.
رسالة سياسية
الفيلمان من أفلام الرسالة السياسية التي تعكس رؤية هوليوود الليبرالية، ويعتمد كلاهما في توصيل رسالتهما، على قدر كبير من الالتزام بالوقائع الحقيقية، في صياغة أقرب إلى “الدوكيو- دراما” أو “الدراما التسجيلية”، التي تسرد وتشرح وتعتمد كثيرا على الحوار. في “المياه الداكنة” يبدو الحوار كما لو كان درسا أو محاضرة، لتبسيط وشرح الكثير من المعلومات العلمية للمشاهد عبر شروح تبدو مربكة أحيانا وليس بوسع المشاهد العادي استيعابها. في “التقرير”، ينتقل الفيلم عبر المونتاج بين فترة وأخرى، لكي يعرض صورا تدعم ما يعثر عليه بطل الفيلم في الوثائق التي يبحث فيها، وذلك أيضا بشكل “تعليمي” يشرح ويفسر ويسلط الأضواء، منتقلا من فترة الرئيس بوش الإبن إلى الرئيس أوباما، مستخدما أحيانا لقطات الأرشيف من أحاديث نائب الرئيس ديك تشيني مثلا، ويعرج على الكشف عن وقائع التعذيب في معتقل أبوغريب بالعراق، بقصد تذكير المشاهد بما يعرفه مسبقا ولكن في قالب درامي مثير.
محاولتا البطلين
في “المياه الداكنة” يحصل المحامي روبرت بيلوت، على تعويض ضخم لضحايا الشركة من أهالي البلدة. لكن الشركة نفسها تستمر في استخدام نفس المادة المسممة في صناعة الأواني وأسطح المواقد والثلاجات وغيرها من الأدوات المنزلية المستخدمة في المنازل في شتى أرجاء العالم. وفي نهاية الفيلم تقول لنا الأسطر التي تظهر على الشاشة، إن هذه المادة توجد في دماء جميع الكائنات، وتحديدا 99 في المئة من البشر على ظهر كوكب الأرض، وإنه بفضل ما قام به بيلوت، أصبحت هناك حركات متعددة مناهضة لاستخدام هذه المادة و600 مادة أخرى مشتقة منها، وكلها لا تخضع لقوانين تنظم دواعي استخدامها.
أما في فيلم “التقرير” فبينما يبتعد “جونز” في النهاية حزينا محبطا، عن مبنى الكابيتول هيل، تقول لنا الكلمات التي تظهر على الشاشة إنه لم تتم إدانة أي ضابط من ضباط وكالة المخابرات المركزية بسبب التجاوزات التي أوردها التقرير. بل إن الكثيرين منهم قد تمت ترقيتهم. وأصبح أحدهم رئيسا للوكالة.
يستند الفيلمان على البناء المتعرج أو غير الخطي، الذي يظل ينتقل بين الماضي والحاضر، يستدعي الكثير من الصور والوقائع التي تصطبغ بألوان مميزة، تتناقض مع الألوان التي تميز الصور التي تدور في الزمن المضارع. وهي حيلة تقليدية قديمة.
لا شك في أن براعة الممثل الرئيسي في كلا الفيلمين، من أهم العناصر التي تدفع إلى الاستمتاع بالمشاهدة. في “المياه الداكنة” يتعامل الممثل مارك روفاللو مع شخصية روبرت بيلوت التي يؤديها، من خلال أداء هادئ واثق ورصين، يخفي أكثر مما يظهر، لكنه يشي بتصاعد شعوره التدريجي بالقلق والاضطراب ثم التوتر والانهيار العصبي، كما نلمح انعكاس ما يخوضه من نضال في سبيل القضية التي يؤمن بها بعد أن أدرك أنها لم تعد قضية فردية، على حياته الخاصة، مع زوجته وأبنائه الذين أهملهم طويلا. أما آن هاثاواي في دور الزوجة، فقد أهملها السيناريو إلى حد كبير، ولم تظهر لتؤكد وجودها كممثلة موهوبة سوى في المشاهد الأخيرة من الفيلم بعدما تكون قد حسمت أمرها وتفهمت القضية التي يدافع عنها زوجها لتعلن وقوفها الى جواره.
ولا شك أن آدم درايفر، أجاد كثيرا التعبير عن مثالية شخصية دانييل جونز التي يقوم بها في “التقرير”. إنه يتكلم في إيقاع سريع، تتدفق الكلمات من فمه كما لو كانت طلقات مدفع رشاش، يريد أن يقضي بها على الأعداء، “قتلة النظام”، وأن يثبت أنه سليل جورج واشنطن الذي أرسى فكرة أن لا أحد يعلو فوق القانون، (وتظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، عبارة شهيرة له في هذا السياق). إلا أن حماسة جونز التي تتصاعد تدريجيا، يصاحبها بعد ذلك شعور بالإحباط مع إدراكه أنه كان في الحقيقة، يُستخدم كلعبة سياسية محسوبة في أيدي “الكبار”، وأنهم كانوا يعلمون من البداية أن التقرير لن ينشر، وأن المؤسسة ستظل في نهاية المطاف، كما كانت، أي أقوى من الفرد. فالتمرد الفردي لا يفيد. وربما يكون هذا هو الدرس الذي نتعلمه من الفيلمين.