الموسيقى والفلسفة بين الأفلاطونية والصحوية

لدينا ما يقارب ستة ملايين طالب وطالبة، وثلاثون ألف مدرسة، هذا العدد هو الاختبار الوزاري القادم. فقد آن الأوان لاجتماع وزاري بين التعليم والثقافة والإعلام لوضع خطط آنية ومستقبلية غير متناقضة، ينسجم فيها الطالب بين ما يتعلمه داخل المدرسة وبين ما يعيشه خارجها، لا تعكّر صفوها المفارقات التي كانت قائمة إبان هيمنة تيار الصحوة بين تعليمه المدرسي، وبين ثقافته الوطنية، وبين إعلامه الرسمي.
كان متوقعا أن يجتمع الوزيران السعوديان؛ وزير الثقافة بدر بن عبدالله آل سعود مع وزير التعليم حمد آل الشيخ، فبين أيديهما ملفات ساخنة ينتظر، منذ انطلاق رؤية المملكة 2030، النظر إليها بصورة مفصلية وجادة وعاجلة، ملفات غير قابلة للتأجيل والتسويف، وعلى رأسها ملف تطوير المناهج الدراسية، واجتثاث آثار الصحوة منها، بالإضافة إلى توسيع مناهجها لتشمل تعليم المسرح والفلسفة والموسيقى في خططها الدراسية.
حين اجتمع الوزيران الشهر الماضي في مبنى وزارة الثقافة بدرعية الرياض بدأ المثقفون والأكاديميون في استشراف الحالة التي ستكون عليها الأمور بعد اجتماعهما، وما هي الملفات والقضايا التي تناولاها؟ وما هي القرارات التي اتخذاها؟ خصوصا وأن وزارتيهما تحظيان بميزانية ضخمة، وباهتمام استثنائي من القيادة السعودية. لم يخرج الوزيران من اجتماعهما إلا بتغريدة كتبها وزير الثقافة تقول “الموسيقى والمسرح والفنون في تعليمنا. والقادم أجمل”. كيف؟ ومتى؟ وأين؟ لا أحد يعلم.
ضمن المتغيرات السريعة التي تعيشها المملكة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي كشف وزير التعليم السابق أحمد العيسى، خلال مشاركته في الجلسة الرئيسة من المؤتمر الدولي لتقويم التعليم المنعقد العام الماضي، عن تطوير جديد قريب لمناهج المرحلة الثانوية، حيث ذكر بأن الوزارة تمتلك مقررا جديدا للتفكير الفلسفي الناقد، بالإضافة إلى مقرر لمبادئ القانون. لكننا حتى الآن لم نر شيئا مما بشّر به العيسى. فقد كانت مجرد صورة لمسودة “منهج فلسفي” موضوعة على طاولة الاجتماع في فندق ماريوت بالرياض.
هذا التطوير كان مطلبا جوهريا منذ وقت طويل، غير أن تيار الصحوة كان السد المنيع الذي حال دون تحقيقه خلال الأربعين سنة الماضية. ممّا عزز غياب الحالة النقدية والتفكيكية والفنية لدى الطلاب الذين لقّنوا، لعقود متلاحقة، بأن المنطق زندقة، وأن الفلسفة باب للشر، وأن الموسيقى حرام لا يقربها إلا “المخنّثون”. فقد كان مجرد التفكير في التطوير ضربا من الجنون.
ليس ممكنا أن نغمض أعيننا اليوم على واقع تعليمي وثقافي بائس لنفتحها في الغد على حلم أفلاطوني
واقع التعليم السعودي يحتاج إلى نقلة حقيقية من الحالة التلقينية إلى الحالة الإبداعية، وهذا التحول لا بد له من خطة استراتيجية، لا توضع على نحو استشرافي، وإنما بناء على حيثيات ووقائع مدروسة تقوم مؤسسات الدولة ووزاراتها على إرساء قواعدها بالتدريج.
في الحقيقة، لا يمكن بين يوم وليلة أن نغمض أعيننا على واقع تعليمي وثقافي بائس لنفتحها في يوم آخر على حلم أفلاطوني، فالأمر يحتاج إلى إعداد لمباني المدارس، وإلى الكوادر التعليمية المتخصصة، التي يجب أن تكون ضمن خطط الوزارة في ابتعاثها، ليس في فترة الدراسة الجامعية، بل تبدأ منذ التعليم المبكر.
ينبغي على وزارة التعليم بالتنسيق مع الثقافة أن تجترح ذلك عبر مسارين، الأول في التعاقد المباشر مع معلمين مختصين من جامعات ومدارس عالمية أو عربية ذات خبرة وتاريخ في الفسلفة والموسيقى، والثاني وضع الخطط والمناهج وتشكيلها منذ المرحلة الابتدائية حتى الجامعية، ليتسنى الحصول على كوادر متعلمة تعليما داخليا وخارجيا خلال الـ12 سنة المقبلة.
لا يكفي أن ندفع الفلسفة والموسيقى داخل الخطة العامة لمناهجنا منذ السنة المقبلة، ثم نوعز لمدرسين غير متخصصين بتدريس الفلسفة، أو أن نتعاقد مع فناني وموسيقيي الجمعيات الثقافية لتدريس الموسيقى. فهؤلاء ليسوا متخصصين، ولا علاقة لهم بالتدريس الأكاديمي.
لا يمكن بحال من الأحوال، تحت ذريعة عدم توفر الكوادر، أن نكلّف معلم الاجتماعيات، الذي في الغالب تخرج من الجامعة بتقدير “مقبول” بتدريس الفلسفة التي تحتاج في تدريسها إلى نخبة من عباقرة العالم ومفكريها، إنها تخصص لا يدرك عمقه ومعناه إلا عقول نادرة وقليلة. الأمر نفسه لا بد أن يراعى في تعليم الموسيقى، فهي علم وفن لا يمكن أن نتعاقد في تعليمه مع الهواة غير المتخصصين في جمعيات الثقافة والفنون.
وفي ضوء ذلك، يجب مراعاة عدم تشويش الطلاب الصغار بمناهج تحمل متناقضاتها بين دفتيها، فحين يدرس الطالب في مادة الفقه أنه من تمنطق فقد تزندق، وأن الفلسفة باب من أبواب الشر، ولا يجوز تعلمها، وحين يدرس أن الموسيقى مزمار من مزامير الشيطان، حين يدرس ذلك كله على يد معلم التربية الإسلامية في الحصة الأولى، ثم يدخل معلم الفلسفة في الحصة الثانية، ويزوره معلم الموسيقى في الحصة الثالثة، سيعيش الطالب حالة من حالات الانفصام والانفصال والنفاق الفكري والاجتماعي بين ماهو قائم، وبين ما هو مأمول.
اجتثاث ما تبقى من آثار الصحوة في المناهج هو مطلب حقيقي ومهم يجب أن تبدأ وزارة التعليم به قبل أي تعاون وزاري أو تطوير يمكن أن تفكر فيه في خططها الطويلة أو القصيرة، فقد آن الأوان لذلك بعد أن وعدت القيادة السعودية بإنهاء صفحتهم التاريخية إلى الأبد.