الموسيقى فن مقدس في حضارة مصر القديمة

جدران مقابر الفراعنة تمجّد الرقص والموسيقى.
الخميس 2023/05/25
الموسيقى تغلغلت في كل مرافق الحياة

جميع الحضارات كانت لها موسيقاها، ولكن هناك من دوّن ذلك وهناك من أغفله فتاهت موسيقاه. الفراعنة الذين احترفوا تدوين كل شيء نقلوا لنا موسيقاهم ومكانة الموسيقى والرقص عندهم من خلال الصور الجدارية، إذ تعتبر الموسيقى عندهم من الفنون التي يدعمها الحكام وتحاك حولها الأساطير وهالة التقديس.

الأقصر (مصر) - نقلت لنا الجداريات الفنية بمجموعة المقابر التي تعرف بمقابر الأشراف والنبلاء، والتي يحتضنها جبل القرنة التاريخي في البر الغربي من طيبة القديمة (الأقصر حاليا) مدينة الصولجان، وعاصمة مصر القديمة على مدار قرون من الزمان، الكثير من مشاهد الرقص وحفلات الموسيقى والغناء في مصر القديمة، وبينت لنا كيف تكاملت فنون الموسيقى والغناء والرقص في الحضارة المصرية.

وبحسب دراسة أثرية للأكاديمي والباحث المصري خالد شوقي علي البسيوني فإن الرقص والموسيقى والغناء احتلت مكانة بارزة في الفنون الرفيعة التي عرفها قدماء المصريين، بل وكانت من العلوم المقدسة آنذاك، لكونها دخلت بعناصرها المحورية ووظائفها الحيوية في الشعائر والطقوس الدينية والجنائزية التي كانت تقام في مصر قبل آلاف السنين.

يؤكد البسيوني في دراسته على أن المناظر التصويرية الخاصة بموضوع المآدب والولائم والحفلات العائلية على جدران مقابر الأشراف والنبلاء وعلية القوم في جبانة طيبة القديمة غربي الأقصر، والتي يعود تاريخها إلى عصر الدولة المصرية الحديثة، تعد مصدرا وثائقيا فائق الأهمية من الناحية الأثرية والعلمية لدراسة فنون وعلوم الموسيقى والرقص والغناء وحياة القصور في هذا العصر، كما تمثل سجلا لتطور الحياة الاجتماعية والمعيشية في مصر الفرعونية.

الموسيقى في مصر

◙ الإله أوزوريس كان يحب البهجة والمرح والموسيقي والرقص
◙ الإله أوزوريس كان يحب البهجة والمرح والموسيقي والرقص

ووفقا للدراسة، فقد عرف المصري القديم فنون الرقص والموسيقى والغناء، واستخدمها في مجالات ووظائف متعددة وشتى في الحياة الدينية والجنائزية والمدنية، واستخدم أيضا بالمعني الترفيهي والشعبي الاحتفالات والمواكب الدينية والمناسبات الملكية والأعياد الرسمية والشعبية.

وفي دراسته، التي توقف من خلال فصولها عند مناظر المآدب والولائم على الجداريات الفنية التي تزين مقابر أشراف ونبلاء الفراعنة بجبانة طيبة، أشار الأكاديمي والباحث المصري إلى أن هذه المناظر التصويرية تسجل لنا حفلات الرقص والطرب في قصور وفيلات وحدائق الأشراف والنبلاء والأمراء الذين عاشوا في طيبة عاصمة الإمبراطورية المصرية إبان الدولة الحديثة، كما تعكس هذه المناظر التي تعبر عن حياة الترف والأبهة، تطور فنون الرقص والموسيقي والغناء في ذلك العصر، وكذلك بنية الحياة الاجتماعية والطبقية أثناء عصر الدولة الحديثة (الأسر: 18 و19 و20).

وتنقل لنا صفحات وفصول الدراسة ما ذكره الكاتب ديودور الصقلي (مؤرخ يوناني عاش في القرن الأول قبل الميلاد) حول نشأة وطبيعة الموسيقى في مصر القديمة، حيث قال إن الإله أوزوريس كان يحب البهجة والمرح والموسيقي والرقص، وكانت تلتف حوله جوقة وفرقة من الموسيقيين.

وتدلنا الدراسة على أن الروايات الكلاسيكية التي يرويها للكتاب الإغريق والرومان مثل أفلاطون وبلوتارك وديواور، تروي أن الإله أوزوريس هو الأصل والمبدأ والطاقة العبقرية التي تقف وراء الحضارة والنظام العام: العلوم والفنون الرفيعة والفلسفة والقوانين والمذاهب المقدسة، وأن أوزوريس هو مخترع الموسيقي (الموسيقي والمايسترو الأول) بينما كان حورس الابن “أبوللو” عند الإغريق، أي إله الشعر والنغم.

وبحسب الأفكار الكلاسيكية التي نقلها أفلاطون وبلوتارك، فإن الموسيقى والشعر والغناء في مصر القديمة كانت مكرسة لخدمة القوانين والشرائع، وهي ذات الأفكار الموجودة عند الإغريق والرومان واللاتين “إن كل الشعوب تدين بمباهج وفضائل تحضرها وحضارتها نفسها لفنون الغناء والموسيقي”.

الفن المقدس

 ◙ قدماء المصريين عرفوا أنواعا متعددة من الرقص
 ◙ قدماء المصريين عرفوا أنواعا متعددة من الرقص

تلفت الدراسة إلى أن المدينة التي قامت بها أول مستعمرة من المصريين في بلاد اليونان كانت تحمل اسم أرغوس (Argos) وتعني الموسيقار أو المغني، وهو الأمر الذي يشير إلى أن المستعمرات ومدارس الكهنة المصرية في بلاد الإغريق قد نقلت معها فنون الموسيقي والغناء والشعر في هذه البلاد مما جعلها تدخل في أطوار الحضارة والمدنية في مصر الفرعونية.

وبحسب ما نقلته ووثقته لنا الجداريات الفنية بمقابر أشراف ونبلاء مصر القديمة في جبانة طيبة، فإن قدماء المصريين عرفوا أنواعا متعددة من الرقص. وقد لعب النظام الديني والفكري الملكي دورا مركزيا في رعاية فنون الرقص، حيث كان الرقص ركنا من أركان الشعائر والطقوس الدينية، فلا تكاد تخلو مظاهر الطقس الديني في رحاب الهياكل والمعابد من منظر للرقص الذي يؤديه الرجال والنساء فضلا عن الملوك.

◙ المستعمرات ومدارس الكهنة المصرية في بلاد الإغريق قد نقلت معها فنون الموسيقى والغناء والشعر إلى تلك البلاد

وكان الملوك يقدمون الرعاية الفائقة لفنون الرقص والموسيقى، ويعينون راقصات وموسيقيات ومغنيات في القصور الملكية ويمنحوهن الهبات السخية. ولما كانت الموسيقى فنا مقدسا في مصر القديمة، فقد أنشد قدماء المصريين التراتيل والترانيم والأناشيد والابتهالات في أيام الأعياد العظمى والكبرى للآلهة بمصاحبة القيثارات، حيث تكونت آنذاك فرق موسيقية كاملة من الكهنة خاصة بالعروض الموسيقية الدينية بقيادة عازف قيثارة أعمى بمصاحبة رقص الفتيات والأغاني.

وكما تقول دراسة البسيوني، والتي تدور في فلك مشاهد الرقص والموسيقى والغناء في مقابر أشراف ونبلاء مصر القديمة بجبانة طيبة غربي الأقصر، فإن الموسيقى تغلغلت في كل مرافق الحياة في مصر القديمة، حيث كانت لها منزلتها في محاريب العبادة وهياكل المصاطب والقبور وكذلك في الأعياد والأفراح والحفلات والولائم.

وهكذا تبقى مقابر أشراف ونبلاء مصر القديمة، وما تزينت به من جداريات فنية ونقوش ورسوم، هي المصدر الأكبر والأهم للكثير من تفاصيل الفنون بمصر القديمة، وفي مقدمتها فنون الرقص والموسيقى والغناء.

13