المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون يصحح مساره الثقافي

خرج المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في دورته هذا العام من سجنه "الإعلامي" ليعود نحو الثقافة ويؤكد أنه حدث ثقافي ينطلق من أهمية الفعل الثقافي في واقع الشعوب التي سئمت الحديث في السياسة، وفي ظل انتشار رهيب ومتسارع للتكنولوجيا التي حررت كل المبادرات الثقافية من رقابة فرضت عليها لعقود.
المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، الذي اختتمت فعاليات دورته الثالثة والعشرين على مدرجات المسرح الأثري بقرطاج في العاصمة التونسية، يسجّل انضمام وزارة الشؤون الثقافية كشريك لاتّحاد إذاعات الدّول العربية للمرة الأولى، إلى جانب مؤسّستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين و"عربسات"، وهو ما يعكس أمرا واضح المقصد، ويتمثل في اعتبار المهرجان أكبر من كونه تظاهرة إعلامية بالمفهوم المألوف للكلمة، وإنما هو حدث ثقافي يُعول عليه في الاحتفاء بالمواهب الإبداعية ومن ثم احتضانها ورعايتها.
الثقافة والإعلام إذن، ووفق هذه المقاربة، توأمان لا يمكن الفصل بينهما رغم الوظيفة الواضحة والمستقلة لكل منهما، وهو ما من شأنه أن يصنع خلخلة وانزياحا في المفاهيم والوظائف، ويربك القناعات الراسخة، والمتمثلة في أن الفعل الثقافي ليس نشاطا إعلاميا بطبيعة الحال، فالفرق واضح بين أن تفتح جهازي التلفزيون أو الراديو وبين أن تفتح كتابا أو تدخل قاعة مسرح.
التباعد بين وظيفتي الإعلام والثقافة قد يؤدي إلى نوع من التكامل على مستوى الصحافة الثقافية التي لا ينبغي أن تكتفي بدور الناقل بل يمكن أن تتجاوزه وتتعمق فيه نحو الراعي والمحرض والمستثمر، لكن كيف لها أن “تتورط” في صناعة الإبداعات الفكرية والفنية حتى تصبح شريكا.
لا بد هنا من رفع جميع الالتباسات حتى لا يتعدى كل مجال على غيره فيختلط الحابل بالنابل، ويقع المحظور المتمثل في تورط الثقافة بالإعلام فتدعي التزام الحياد والقراءة الموضوعية من ناحية، وينزع الإعلام نحو ارتداء عباءة الإبداع الفني فيحيد عن مهمته التي جاء لأجلها.
صحيح أن مثقفين وفنانين كثيرين يخوضون تجارب إعلامية لافتة في عالمنا العربي، وقد ارتقى الكثير منهم بهذه المهمة النبيلة وأضاف إليها، وكذلك بالاتجاه المعاكس، لكن المعضلة هنا ليست في الأشخاص وتجاربهم، وإنما في الهيكلة والمسارات المتعلقة ببنية كل مؤسسة واستقلاليتها وفق مبدأ فصل المهمات والسلطات وعدم اختزال النشاط الإعلامي ضمن هيئة مركزية ذات اختصاص رقابي.
الجميع يعلم أن الديمقراطيات العريقة في العالم قد ألغت ما يعرف بوزارات الإعلام، وتركت لكل مؤسسة مكتبها الإعلامي الذي يخصها ويعبر عن توجهاتها، ذلك أن “السلطة الرابعة” تعبير مجازي يثمن وظيفة الإعلام ولا يدعو أبدا إلى مأسسته بطبيعة الحال.
أما كيف يجتمع مسؤولون عن الإعلام، وبدرجات متفاوتة من مختلف الأقطار العربية، ليعلنوا عن تعاون وتنسيق جهود في سبيل الارتقاء بالفعل الإبداعي بل وصناعته، فمسألة تحتاج إلى الكثير من النقاط فوق الحروف.
ربما غابت عن أذهاننا فكرة بعيدة عن الخوض في السياسات الثقافية والاحترازات الحقوقية وغيرها، وهي أن التداخل في الوظائف والاختصاصات صار سمة العصر بعد أن كنا قبل عقود شديدي التحفظ على مبدأ احترام الاختصاص والفصل بين الوظائف.
لم تعد تطغى تلك الصورة التقليدية للوظائف الثقافية والفنية أمام ثورة تكنولوجية جعلتنا نحضر أفلاما من دون دور سينما ومسلسلات تلفزيونية من دون تلفزيونات.. ونحن نرى الوسائل الإعلامية التكنولوجية تتطور وتندمج وتتعقد، نسأل: ماذا سيحدث للتلفزيون التقليدي؟
هذا على مستوى تقنية التلقي الذي بدوه سوف يغير طبيعة المواد المقدمة فيتداخل فيها الثقافي بالإعلامي والإعلاني، دون أن تحضر تلك الأسئلة والتوجسات المتعلقة بحرية الإبداع واستقلالية المبدع، لا لأن حكوماتنا أصبحت “ديمقراطية أكثر مما يجب” بل لأن الثورة التكنولوجية محت تلك الفوارق والحواجز، وتحدت جميع أصناف الرقابات على المنصات الإعلامية فكان لا بد لجهات الإشراف في العالم العربي أن تستوعب هذه الثورة التكنولوجية وتدفع بها نحو وجهة الاستثمار في الثقافة والإعلام.
ولعل المملكة العربية السعودية هي أفضل من تفطن إلى هذه المسألة وربطت الثقافة والإعلام والسياحة والترفيه ببعضها في دينماكية مخصبة ضمن رؤية 2030، وبدأت تقطف النتائج بصفة مبكرة.
◙ تلك الصورة التقليدية للوظائف الثقافية والفنية لم تعد تطغى أمام ثورة تكنولوجية جعلتنا نحضر أفلاما من دون دور سينما
وبالعودة إلى جديد المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون الذي أنهى فعالياته في تونس وسط حضور رسمي من شخصيات عربية فاعلة في المشهدين الثقافي والإعلامي، فإن دخول وزارة الثقافة التونسية كشريك في هذه التظاهرة الكبرى، يؤكد حتمية هذا المسار المتعلق بدمج النشاطين الثقافي والإعلامي، مما يعكس الإيمان بدور الثقافة في “تقريب الشعوب وتنمية العقول وتمتين جسور التواصل بين المبدعين” كما جاء في صفحة الوزارة.
عموما، ثمة شعور بجدوى ما يجب أن يكون عليه هذا الملتقى الإبداعي من طرف المشاركين، ويظهر ذلك من خلال الأعمال المتنافسة والجوائز الممنوحة، والتي تعكس وعيا إضافيا بضرورة الارتقاء بالإنتاج السمعي والبصري في العالم العربي بعيدا عن المجاملات و"الإخوانيات".
إن مجرد التأمل في شعار الدورة وهو “الفنون والثقافة تجمعنا” يعطي الانطباع بأن القائمين على المهرجان قد أدركوا أن هذه المعادلة ممكنة، لا بل لا بديل عنها في عصر أثبتت فيه السياسة قصورها في إرضاء الناس وفشلت في تجميعهم، ولم يبق إلا الفن والثقافة بضاعة لا تكسد أسواقها ويسهل تبادلها بين وسائل الإعلام العربية على مختلف هيئاتها التي ينبغي أن تخرج من نمطيتها وتقليديتها.
لا خوف على الإذاعات والتلفزيونات العربية حين يتعلق الأمر بالثقافة والفنون وليس بالدعايات السياسية والخطابات التعبوية التي انتهى أمرها وسط ثورة تكنولوجية تجتاح العالم وتعصف بالتقوقع والركود.