المنظمات الحقوقية.. لا أريكم إلا ما أرى
من الصعب الحديث عن حقوق الإنسان خارج منطق المصالح والحسابات الدولية، ولذلك غالبا ما تأتي التقارير التي تصدرها المنظمات الحقوقية الكبرى موجهة ضد دول من العالم الثالث، وخاصة الدول العربية التي تتمسك بمعادلة تربط بين الحريات والأمن القومي.
وهناك منطق استعلائي يحكم أغلب هذه المنظمات، ما يجعلها تصدر التقارير بسرعة وبحدة ضد دول بعينها، فيما تغمض الأعين على انتهاكات لحقوق الإنسان في دول غربية عريقة مثلما حصل في قضية السجون السرية ما بعد تفجيرات 2011.
لا تستطيع المنظمات الحقوقية أن تقول لواشنطن أو باريس أو لندن إن الحرب على الإرهاب مشروعة وضرورية، ولكن عليكم أن تحافظوا على حقوق الإنسان في عمليات الاستجواب والاعتقال، ولا تتنصتوا على هواتف المشبوهين، ولا تراقبوا حساباتهم وصفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لماذا تصمت هذه المنظمات على القصف العشوائي للطائرات والذي يؤدي إلى مقتل العشرات في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان؟ لماذا تختفي تلك التقارير التي تدين إسرائيل على جرائم عديدة في الأراضي الفلسطينية؟
أين التقارير التي تضغط على إيران لوقف تصفية المعارضين، ولماذا لا يطالب الخبراء الحقوقيون بوقف تدخلها في سوريا، ووقوفها وراء عمليات التهجير لاعتبارات طائفية ومذهبية؟
لكن المنظمات الحقوقية تهرول سريعا لإدانة دول مثل السعودية أو مصر أو الإمارات أو البحرين لأجل اعتقال شخص يحرض على الطائفية، أو يطلق سلسلة من التهم التي تمس بأمن بلاده واستقرارها، وتحرض على الاقتتال الداخلي.
فهل الأمن القومي للدول الغربية يجيز التجاوزات الحقوقية، فيما الأمن القومي للدول العربية لا يجب أن يوظف لاعتقال شخص أو تفكيك تنظيم يمارس العنف أو يحرّض عليه؟
وهذه مقاربة قديمة منذ الحرب الباردة، وما قبل “الربيع العربي” وما بعده، تقوم على توظيف ملف حقوق الإنسان لابتزاز الدول العربية عبر تقارير إما مفبركة تماما وإما تقوم على تهويل حادث عارض وتحويله إلى قضية مثار نقاش في وسائل الإعلام حتى لا يجد هذا البلد أو ذاك ملاذا سوى شراء سكوت تلك المنظمات بإرضاء من يقف وراءها.
لكن دولا عربية عدة تغيرت وصارت تعتبر حقوق الإنسان ملفا داخليا لا يحتاج إلى وصاية أو ضغوط، وأن التعاطي معه يكون ضمن أمنها القومي. وتريد أن ترتقي بهذا الملف وفق استراتيجية وطنية شاملة لا تحصر منظومة حقوق الإنسان في تقارير تصاغ تحت الطلب، وإنما باعتبارها قيمة متعددة الأوجه تجعل أي تطوير لواقع الإنسان سياسيا وثقافية واجتماعيا واقتصاديا نقلة في المنظومة الحقوقية كما يحددها البيان العالمي لحقوق الإنسان.
|
ومن حق هذه الدول أن تتساءل: لماذا لا ترى المنظمات الحقوقية المكاسب النوعية التي تحققت للإنسان الخليجي مثلا في مجالات شتى مثل مستوى العيش، وتطور التعليم، وترقية وضع المرأة، والمشاركة السياسية.
طبعا لا يمكن أن ننفي حدوث تقصير في هذا البلد أو ذلك. لكننا نتفهم أن تقف دولة مثل الإمارات أو السعودية بقوة ضد مساعي إثارة الفتنة الطائفية في مناخ إقليمي مشحون بالفتنة التي زرعتها إيران عبر دعم أذرع طائفية اخترقت حالة التعايش التاريخية بين أبناء البلد الواحد.
هناك دول تخوض الحروب الطويلة لمنع انفصال جزء من أرضها، ثم يطلب من دول الخليج أن تصمت أمام دعوات داخلية تمجد إيران، أو تعلن الولاء لها بدل الولاء لبلدانها.. هذا طبعا لا يحدث إلا في ميزان منظمات دولية تؤمن بأن الورقة الحقوقية أداة فعالة لابتزاز دول المنطقة ومنعها من الحفاظ على أمنها القومي.
وظهر بالكاشف أن هذه المنظمات تمتلك عينين؛ واحدة مفتوحة على الآخر، والثانية لا تكاد ترى. ففي اليمن تأتي ردودها باهتة وروتينية حول حصار الآلاف من المدنيين في مدن مثل تعز، وتتحاشى إثارة إقدام وكلاء إيران على نسف منازل الخصوم ودور مخصصة للعبادة أو لإيواء الأطفال أو المستشفيات.
وبالمقابل لا شغل لها سوى ضبط العشرات من التقارير حول استهداف المدنيين بطائرات التحالف العربي دفاعا عن نموذج “الحرب النظيفة” التي لا يلتزم بها الكبار ويراد فرضها على السعودية فقط.
لا أحد يبرر القتل أيا كانت الجهة التي تنفذه أو مبرراته، لكن على هذه المنظمات أن تكف عن ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث وإرسال إشارات جادة للعالم كون الدفاع عن حقوق الإنسان لا يخضع للحسابات ولا يتلون حسب الجهات المقصودة، ولا يكون وسيلة ابتزاز لإجبار هذه الدولة أو تلك على القبول بضغوط دول أو مجموعات مصالح فيما يتعلق بصفقات اقتصادية أو عسكرية.
لا تريد المنظمات الحقوقية أن تتفهم أن الدول العربية صارت ملتزمة، كشريك في الحرب على الإرهاب، بمراقبة أنشطة جماعات الإسلام السياسي خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن هذه الجماعات تتقن خطاب المظلومية والتباكي على حقوق الإنسان لتفرش الطريق أمامها لاستقطاب الشباب وشحنه بالأفكار المتشددة قبل نقله إلى أماكن الصراع.
كل دول العالم اتخذت إجراءات مشددة لمراقبة المجموعات المتشددة ومنع وقوع العمليات الإرهابية قبل تنفيذها، فلماذا يراد لدول الخليج أو مصر أو الأردن أن تقف مكتوفة الأيدي تحت وقع محاذير حقوق الإنسان ولا يُطلب هذا الأمر من غيرها.
ولا بد من أن تعرف هذه المنظمات أن جماعات الإسلام السياسي تنشط بشكل واسع في ثنايا وسائط الإعلام الجديد، وأن المعركة معها صعبة ومعقدة، فكيف يطلب من دول عربية أن تخوضها وهي مكبلة بلاءات المنظمات الحقوقية، التي تستمد معلوماتها من تقارير جمعيات محلية أغلب عناصرها ينتمون إلى هذه الجماعات.
ودون أن نغفل، هنا، أن الجمعيات المحلية لحقوق الإنسان تحظى باهتمام كبير في الغرب، ويتم اختيار عناصرها بدقة ويغدق عليها بالتمويل. وتتداعى المنظمات والدول للمطالبة بإطلاق سراح أي شخص منها يتم اعتقاله سواء ثبت تورطه أم لم يثبت.
وإذا استمر التعاطي التقليدي المتساهل مع جماعات الإسلام السياسي، فإن الحرب على الإرهاب ستخسر أحد أهم أركانها، وهي المعركة الفكرية والقانونية مع جمعيات مثل الإخوان المسلمين التي مثل فكرها الأرضية التي تخرج منها الجماعات التي تعلن الجهاد ضد الغرب وضد العرب وضد العالم.
ومن المهم الإشارة في الأخير إلى أن دولا مثل إيران استثمرت في بناء مجموعات ضغط مقربة منها في الغرب، سواء داخل المنظمات الحقوقية أو في وسائل الإعلام الدولية النافذة، فيما اختارت الدول العربية أن تقابل الحملات الحقوقية بالصمت، والسعي لإثارة الدوائر التي تقف وراءها، خاصة أن المعركة كانت تجري بعيدا عن أنظار مواطنيها.
لكن أسلوب الصمت والهروب من الاحتكاك مع مجموعات الضغط، لم يعد ممكنا الآن، بعد أن صارت المعركة مفتوحة وتصل إلى الناس في كل مكان بفعل الإعلام الجديد، ولذلك صار لزاما بناء استراتيجيات جديدة تقوم على الاستباق والهجوم وحساب مختلف التفاصيل.
كاتب وإعلامي تونسي