"المنديل".. عرض يزاوج بين الرقص والسينما والمسرح للبحث في ثنائية الوهم والحقيقة

بسام حميدي مخرج يتحرر من الضوابط الكلاسيكية للفعل المسرحي.
الخميس 2023/09/28
الرقص جزء لا يتجزأ من "المنديل"

ينجز المخرج السوري بسام حميدي عروضا مسرحية تشبهه، تشبه أفكاره ومهاراته، حيث يصر على إدخال الغرافيك والتقنيات البصرية السينمائية إلى عالم المسرح، فيحول قصصه وحكاياته إلى عروض فنية تمزج بين صنوف الفن من رقص وتمثيل ومسرح وسينما وموسيقى لتحكي لنا كل مرة عن فكرة عامة، وكانت في عرض “المنديل” تدور حول ثنائية الوهم والحقيقة.

في عرضه المسرحي الراقص “المنديل” يواصل المخرج السوري بسام حميدي التأسيس لمشروعه الفني المختلف الذي لا يعترف بالحدود الفاصلة بين الفنون، رافعا شعار التجريب الدائم، فهم يمزج بين الرقص والمسرح والسينما موظفا التقنيات التكنولوجية الحديثة لتقديم معالجات فنية لمواضيع وأفكار وثيمات تهم المجموعة البشرية جمعاء، وقد تختص من حين إلى آخر بالجغرافيا السورية باعتبار أنها جزء لا ينفصل عمّا يصيب العالم من تغيرات.

“المنديل”، العرض الذي قدمه لأول مرة في العام 2021، تزامنا مع تداعيات جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وأنارت بصيرة الناس على تغيرات كبرى تشهدها الطبيعة الأم، كان متناغما مع الحاضر، مستشرفا للمستقبل، واضعا يديه على جرح إنساني عميق ومعاناة كبرى بدأنا فعليا نرى آثارها الخطرة اليوم، بدءا من الزلازل والأعاصير المدمرة وصولا إلى ما لن نعرف حجمه وتوقيته وآثاره.

هذا العرض الذي لا يزال متاحا على الإنترنت، أداء حركي: شيرين الشوفي ونورس عثمان. تأليف: عبير العودة، موسيقى: نزيه الأسعد، تصميم غرافيك ومؤثرات بصرية: نزير الدباس وخالد عبدالعظيم ومحمد مجركش. تصميم الإضاءة: محمد يونس قطان، هندسة الصوت: رضوان النوري. تصميم الرقص والتعبير الحركي: نورس عثمان. مدير خشبة المسرح: هيثم مهاوش. وقد شارك هذا العرض في عدة مهرجانات دولية من قبل، منها مهرجان أيام قرطاج المسرحية ومهرجان الأردن.

◙ عرض بصري راقص تم خلاله إدخال السينما إلى المسرح والاشتغال على ذلك عبر أداء حركي راقص للممثلين

المسرحية التي تستمر لنحو خمس وعشرين دقيقة هي بمثابة عرض بصري راقص، تم خلاله إدخال السينما إلى المسرح والاشتغال على ذلك عبر أداء حركي راقص للممثلين. تتطرق فكرة المسرحية إلى زوجين مصابين بالعمى منذ الولادة، ويعيشان الحياة وفقا لمجموعة من الأخيلة التي كوّناها عن الحياة والعالم خارج حيطان منزلهما وعن بعضهما البعض، لكن نتيجة لظرف استثنائي سحري يستعيد الزوجان بصرهما ويتفاجآن بشكل الواقع الذي يختلف كليا عمّا رسماه في مخيلتهما، فلا الطبيعة جميلة كما تخيلاها ولا الأصوات المنتشرة في الأجواء هي دوما جميلة، لا الربيع دائم ولا الشتاء شاعري رومنسي ولطيف على كل البشر.

بصوت أم كلثوم وهي تصدح “رجعوني عينيك لأيامي إلى راحوا علموني أندم على الماضي وجراحه”، يفتح لنا العرض الراقص أول نوافذه السينماتوغرافية على حياة الزوجين، ثم يأخذ في توسيع مساحة التجريب بين الجسد والشاشات ثلاثية الأبعاد التي زرعها مخرج العرض بين عمق الخشبة وأرضيتها، وبتواصل تقنية الـ”ثري دي” التي نجح من خلالها في تقديم مستويات عدة للعبته البصرية المتحركة.

هذه التقنية هي من أثثت خشبة المسرح، فالراقصان يتحركان في حقيقة الأمر في فراغ مسرحي تام، في ما ترسم لنا التقنيات السينمائية مشاهد متنوعة بين الطبيعة والبحر وغرفة المعيشة وغرفة النوم، تزينها بإضاءات لونية مختلفة، وتزيد من جماليتها بأصوات الموسيقي ودقات عقارب الساعة وصرصور الحقل والناي الحزين ونغمات الدف الصوفي، كلها أصوات ومشاهد يتفاعل معها الراقصان وتتغير حركتهما بتغيرها، إلى أن يلمع برق أشبه بقنابل موجهة نحو هدفها فتشل حركتهما ويستيقظان على واقع وحقيقة مختلفين كليا عمّا عاشاه في الماضي.

حين كانا يعيشان بسلام ورومانسية وكانت الحياة دائمة الجمال من حولهما، لم يقنع الزوجان بما لديهما بل كانا يبتهلان لله ويتضرعان ليبصرا الحياة التي يحلمان بها. بمجرد أن يتحول الحلم إلى حقيقة ويشاهدان العالم الذي نعيشه وحجم المآسي التي نعاني منها يصابان بخيبة أمل ويرفضان الإبصار.

طوال العرض، التزم المخرج بتصوير المآسي الطبيعية، وتحول الحال من ربيع زاهر إلى أرض ثائرة، دون إشارات مباشرة إلى أن التغير يراد به التعبير عن الانتقال من السلم والأمن إلى العنف والحرب، وكيف أن الطبيعة دُمّرت بفعل البشر، وحدها المؤثرات الصوتية من تحقق الغاية، حيث تذكرنا بصوت التفجيرات والقنابل وصراخ اللاجئين والغرقى والنازحين.

◙ ديكور الخشبة الملون ينقلب إلى اللونين الأبيض والأسود تعبيرا عن الواقع المغاير للأحلام
◙ ديكور الخشبة الملون ينقلب إلى اللونين الأبيض والأسود تعبيرا عن الواقع المغاير للأحلام

بعد عودة البصر إلى البطلين، ينقلب ديكور الخشبة الملون إلى اللونين الأبيض والأسود تعبيرا عن الواقع المغاير للأحلام. تتغير حياتهما، تبدأ المشكلات في الحدوث، والطبيعة في الغضب وتتوالى بينهما الأزمات إلى أن يقررا العمى الذاتي، فيرميان مناديلهما ويربطان أعينهما ليعودا إلى ظلامهما المنير.

يستند التجريب تحديدا في عرض “المنديل” على المزج بين لغة الجسد المسرحي مع تقنية السينما ثلاثية الأبعاد، وهو يدمج أيضا بين فنون أخرى منها فن الديكور والنحت والغرافيك والشعر والرقص والتمثيل والغناء. كذلك دمج المخرج تقنيات الإضاءة التلفزيونية مع تقنيات الإضاءة المسرحية باستغلال الفضاء المسرحي الفارغ. حيث كشفت هذه التقنية قدرات بسام حميدي المعروف عنه اشتغاله لسنوات مديرا للإضاءة في الأعمال التلفزيونية وتحديدا المسلسلات، كما عمل في مديرية المسارح كفنيّ في مجال الإضاءة منذ العام 1996، وقد استطاع في عمله المسرحي الراقص أن يظهر موهبته ويحقق من خلالها التناسب بين أحجام الراقصين وبين عناصر الشاشة، وكذلك التناسب اللوني الذي يحول الخشبة إلى لوحة افتراضية تنتهي بمجرد إيقاف البث.

“الغرافيك هو أساس عرضه وعروضه البصرية فهو يكمّل الإضاءة والمشهدية بشكل كامل لإيصال الرؤية البصرية”، هذا ما يؤكده المخرج عن أهمية الغرافيك من وجهة نظره، مع تأكيده أن استخدام الغرافيك يتطلب من الممثل أن يكون دقيقا في تعامله مع أبسط التفاصيل.

◙ في زمن الذكاء الاصطناعي حوّل المخرج السوري خشبة المسرح إلى عالمين أحدهما مرئي وملموس وآخر مرئي وغير ملموس

وتأتي تجربة حميدي في “المنديل” بعد عرضه الأول “ضوء القمر” (2018) والذي أظهر فيه الملامح الأولى لنزعته التجريبية التي تجمع المسرح بالسينما وببقية الفنون والتقنيات وخاصة الغرافيك، لكنها تجربة اهتمت بالواقع السوري عبر حكاية فتاة يتيمة فقدت أهلها وبيتها في تفجير انتحاري، فتقرر الهجرة من البلاد الغارقة في العنف، وينطلق منها العرض نحو المشهد الأوسع والأعم لحال العشرات من السوريين الذين عاشوا القصة نفسها بكافة أبعادها المادية والمعنوية، ولا يزالون يعيشونها. لقد انغلق في هذه التجربة على "الأنا" تاركا الآخر لنفسه.

وفي "المنديل"، لم يهتم حميدي بـ"الأنا" تاركا صورة "الآخر" مجرد تهيئات تختلف باختلاف فكر المتلقي وظروفه، بل جعل اهتمامه بـ"الأنا والآخر" جدلية لم تنفك عقدها من بداية العرض حتى نهايته، وحملها أحيانا نحو مقاربتين الأولى تبحث في ماهية "أنا والآخر هنا" والأخرى في "أنا والآخر هناك" أو إن صح التعبير "نحن اليوم" و"نحن غدا"، وهما مقاربتان تفرضان مقارنة فنية موضوعية بين الوهم والحقيقة، بين العمى الذي يراد منه في هذا العمل المسرحي الراقص الإشارة إلى العمى العقلي والفكري الذي يجعل المرء غير مبصرا لحقيقة ما يدور حوله، فيغرقه في الوهم، وبين الإبصار برمزيته التي تكشف للأنا والآخر الحقيقة المرّة.

في زمن الذكاء الاصطناعي والركض خلف التكنولوجيا، حوّل المخرج السوري خشبة المسرح إلى عالمين أحدهما مرئي وملموس وآخر مرئي وغير ملموس، يغنى بهما الحالة الشعورية للمشاهد لكنه يثير في داخله الكثير من التساؤلات حول مدى حقيقة الأشياء، وجدوى الحلم بالغد وبما هو "هناك"، وبين ما الحقيقة المطلقة الملموسة وبين ما يصوغه العقل البشري من أوهام، يصدقها الإنسان ويتبعها نحو الهاوية.

وفي زمن الذكاء الاصطناعي والإنترنت التي دخلت أغلب البيوت، لازال المسرحيون يعيشون في وهم مشترك يجعلهم يسجنون فعلهم الإبداعي في حدود الخشبة والصالات المغلقة، بينما منحت الكاميرات وتقنيات البث المباشر فرصة لغيرهم من الفنانين عبر العالم لإيصال أعمالهم إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور، يجربون معه أفكارهم وينقلون إليه تجاربهم ويستقبلون انتقاده واحتفاءه في آن واحد، مدركين أن الوهم والحقيقة بينهما خط دقيق لا يدركه إلا من فهم أن التغيير آت لا محالة.

◙ عن أحلام المخرج

14