الممارسة الدراماتورجية في المسرح العربي.. إشكاليات لا تنتهي

وظيفة الدراماتورج تعرضت في العالم العربي، رغم انحسار دوره في الممارسة المسرحية إلى الكثير من التشويه والتسطيح.
الاثنين 2019/12/16
“مؤتمر هاملت” لسليمان البسام.. قراءات دراماتورجية تأويلية

للدراماتورجيا مجال دلالي واسع، كونها تشير إلى وظائف متعددة ظهرت تباعا مع تطوّر المسرح، وهي مأخوذة من الفعل اليوناني الذي يعني “يؤلّف”، أو “يشكل الدراما”، وتُستخدم بلفظها اللاتيني في أغلب لغات العالم، وكذلك في اللغة العربية، إذ لم يُعرّف المفهوم، ولا يوجد له مُرادف، بل تُستخدم مصطلحات أخرى تغطي بعض الجوانب الدلالية له.

مثّلت التجربة الألمانية في المسرح أول انفتاح في معنى الدراماتورجيا على مدلولات جديدة تتخطّى عملية الكتابة لتشمل العمل المسرحي بمجمله، بما فيه عمل الممثل وشكل العرض. وقد طوّر بريشت أسلوبا في التحليل الدراماتورجي للنص، والعمل مع الممثل لكي يبدأ هذا المفهوم في الانتشار بمعناه الجديد، وصار مصطلح “دراماتورجيا” يغطي مجال المسرح كله بما فيه كتابة النص، وتحضير العرض، وخلال عمله مع المخرج ماكس رينهاردت اكتسبت الدراماتورجيا دورا خاصا في الإنتاج المسرحي، فالدراماتورج هو المسؤول عن الانتقال من النص إلى العرض.

ومن ثم أخذت الممارسة الدراماتورجية تتقاسم مع الإخراج مهمة الإنتاج المسرحي، فحين يقوم المخرج بالإعداد التقني المشهدي للعرض المسرحي يقوم الدراماتورج بالإعداد النظري، خاصة بناء الحكاية، ويتولى مسؤولية التنسيق بين عناصر العرض.

وتعرضت وظيفة الدراماتورج في العالم العربي، رغم انحسار دوره في الممارسة المسرحية، إلى الكثير من التشويه والتسطيح، فلاحظنا خلال العقود الثلاثة الماضية ظهور اسمه إلى جانب المخرج، في بعض العروض المسرحية، من دون أن يكون له جهد دراماتورجي حقيقي في التجربة، إما بسبب ضعف خبرته، أو بسبب دكتاتورية المخرج، أو لجهل الطرفين العلاقة بين عمل المخرج وعمل الدراماتورج. ولذلك اتخذ العديد من المخرجين، على اختلاف تجاربهم، منحى وأسلوبا، الخيار الدراماتورجي في مقاربة نصوص عروضهم المؤلفة أو المكيّفة عن أجناس أدبية مختلفة.

مارس جواد الأسدي مارس وظيفة الدراماتورج المؤوّل والمخرج صاحب الرؤية في عرض “المجنزرة ماكبث”
مارس جواد الأسدي مارس وظيفة الدراماتورج المؤوّل والمخرج صاحب الرؤية في عرض"المجنزرة ماكبث"

ومن بين هؤلاء المخرجين، مثلا، المخرج العراقي صلاح القصب الذي أعمل مشرطه، من خلال مسرح الصورة، في تشريح نصوص عالمية، أغلبها كلاسيكي كـ”هاملت”، “الملك لير”، “ماكبث”، “العاصفة” و”طائر البحر”.. واختزالها، أو العصف بها، أو نفيها أحيانا. وقد شكلت هذه التجارب مغامرة فنية (يمكن إدراجها ضمن تيار مسرح ما بعد الحداثة) لم تكتفِ بإثارة اللذة الجمالية المتأملة، وبإطلاق أعلى حد ممكن من العلامات المسرحية الاعتباطية (الرمزية) فحسب، بل هدفت إلى استفزاز وعي المتلقي، وخلخلة ثوابته المعرفية، وكسر أفق توقّعه، وإلى تعليق المعنى، أو إرجائه (بالمعنى الذي اجترحه ديريدا).

كذلك اشتغل الراحل قاسم محمد، مخرجا ودراماتورجا، في إطار التراث والثقافة الشعبية “بغداد الأزل بين الجد والهزل”، “كان يا ما كان”، “مجالس التراث”، “زاد حزني وسروري في مقامات الحريري” و”حكاية العطش والأرض والناس”، إلى جانب نصوص غربية وشرقية ولاتينية، أو مكيّفة عن نصوص عربية كـ”أغنية التم”، “النصيحة”، “البرجوازيون” (قدمها باسم “نفوس”)، “طائر الحب”، “شيرين وفرهاد”، “ولاية وبعير”، “الإملاء” و”حكاية الرجل الذي صار كلبا”، شاحنا إياها بدلالات إنسانية وقيم نبيلة مطلقة، من خلال صياغات مسرحية تقوم على الطقس الشعبي، والاحتفال، واللعب، والحكي، وغير ذلك من أساليب التعبير المحلي. وكان يطلق على أغلب التجارب التي كتبها بنفسه صفة “سيناريو العرض” تأكيدا على المنحى الدراماتورجي في عمله.

ومارس جواد الأسدي وظيفة الدراماتورج المؤوّل والمخرج صاحب الرؤية في عرض “المجنزرة ماكبث”، الذي قُدّم في مهرجان بغداد للمسرح العربي عام 1992، حيث ركّز على فكرة القوة الغاشمة في نص شكسبير، وهوس الهيمنة لتسليط ضوء رمزي على الوضع الذي عاشته المنطقة العربية خلال حرب الخليج الثانية، وكشف الكارثة التي نتجت عن الطغيان الأعمى.

وقد أنتج الأسدي بهذا الاشتغال الدراماتورجي، كما يقول في كتابته عن التجربة، “ماكبث” عربيا متواطئا مع ماكبث الغربي، بل “أكثر نجاسة ومهارة في تحضير الأرض العربية لكي تكون صالحة وخصبة للغزو والاحتلال والتجويع، والخوض في جحيم الرغيف، والانشغال بأمور ثانوية هامشية لا تشكّل ولا تكوّن مبنى التاريخ المزهر!”.

وفي مقارباته الدراماتورجية لنصوص أخرى مثل “العائلة توت”، “يرما”، “الاغتصاب”، “الخادمتان”، “شباك أوفيليا”، “تقاسيم على العنبر” و”بيت برنالدا ألبا”، إلخ. قدّم عروضا يشتبك فيها البصري والجسدي والسمعي لتشكيل سيمفونيات مفعمة بالشاعرية والجمال، مشحونة بالدلالات المعرفية والحسية، وتتّسم بالجدة والابتكار والانفتاح على التأويل.

واتخذت تجارب المخرج الكويتي سليمان البسام من نصوص شكسبير التراجيدية مثل “ماكبث”، “هاملت”، “روميو وجولييت”، “ريتشارد الثالث” و”الليلة الثانية عشرة” مادة في تقديم قراءات دراماتورجية تأويلية، أو إسقاطية، عبر ابتكار ألعاب، وأفعال درامية تسهم في مقاربة قضايا عصرنا الراهن، وإنتاج دلالات يعمّمها على العالم العربي بأسره، وإثارة تساؤلات حول الكثير من الأزمات والصراعات الإنسانية والسياسية.

وتخيّل المخرج الراحل سامي عبدالحميد، في مقاربته الدراماتورجية لمسرحية “عطيل” وإخراجه لها أواخر التسعينات ببغداد، فضاء جديدا تدور فيه أحداثها، هو مطبخ في فندق درجة أولى، بوصفه بيئة مناسبة للصراع بين الأسود والأبيض، أو الصراع بين عنصرين: أحدهما ينتمي إليه عطيل، والثاني ينتمي إليه ياغو، مفترضا أن الأول رئيس للطباخين (شيف)! بدلا من كونه ضابطا في الجيش الإيطالي، وأن ياغو وكاسيو وزملاءهما طباخون أيضا، في حين افترض دزدمونة نادلة، ووالدها مديرا للفندق أو للمطعم.

وحذف من النص الأصلي كل ما من شأنه أن يشير إلى الأمكنة والمهن، ووزّع الأحداث على المطبخ والمطعم، وجعل اللونين الأسود والأبيض علامتين مهيمنتين على كل شيء طوال العرض، ابتداء من أغطية الموائد، مرورا بالصحون والقدور، وانتهاء بالمواد الغذائية التي تطبخ. وهكذا استثمر عبدالحميد الكثير من العلامات اللونية في بناء سيميائي جدلي لتأكيد رؤيته الدراماتورجية، وفرضيته المتخيّلة لطبيعة الصراع في المسرحية.

إلى جانب هؤلاء المخرجين، برزت الممارسة الدراماتورجية في تجارب مخرجين عرب كثيرين ينتمون إلى أجيال مختلفة، لا يسع المجال للتطرق إليها، شكّلت رصيدا مهما في المشهد المسرحي العربي خلال العقود الماضية، لكنها كشفت في الوقت ذاته عن غياب، أو تغييب دور الدراماتورج عن العملية المسرحية.

17