المغرب وموريتانيا وجهود صناعة الاستقرار الإقليمي

موريتانيا تعتبر جزءا من العمق الإستراتيجي للمغرب في أفريقيا، وبالتالي فحتمية التعاون والتنسيق بين البلدين أصبحت مطلبا جيوسياسيّا وضرورة اقتصادية في توازنات السياسة الخارجية الإقليمية.
الاثنين 2024/12/23
انتصار المغرب في معركة الكركرات انتصار لموريتانيا أيضا

التداعيات الجيوسياسية التي عرفها العالم في الآونة الأخيرة جعلت المشهد الدبلوماسي العالمي يعيش حركية كبرى على شكل مخاض دبلوماسي تبحث فيه كل دول العالم عن تموقعات جيوسياسية جديدة تخدم مصالحها الوطنية أولاً، بعيدا عن منطق الاصطفافات الأيديولوجية البكماء والحسابات العبثية والمحاور السياسوية الضيقة.

فقد قام العقل الإستراتيجي المغربي بتفكيك عناصر الأزمة الإقليمية وتحويلها إلى فرص تنموية مهيكلة وفاعلة كباقي المشاريع التنموية المهيكلة الكبرى التي دشنتها المملكة المغربية منذ إطلاق السياسة الأفريقية الجديدة للمملكة المغربية في أفريقيا، في إطار إستراتيجية التعاون جنوب – جنوب وفق مبدأ رابح – رابح، كمشروع الأنبوب الأطلسي – الأفريقي ومسلسل الرباط للدول الأفريقية الأطلسية والمبادرة الملكية الدولية لدول الساحل الأفريقي التي تسمح لدول الساحل بالوصول إلى المحيط الأطلسي وفق مقاربة تشاركية تعتمد على النجاعة والاستدامة والشمول.

◄ الانتصار حرر موريتانيا من تهديد بوليساريو للأمن الاقتصادي الموريتاني، كما أنه أعطى لموريتانيا حرية أكثر في الانتقال بين المحاور الجيوسياسية في المنطقة

من هذا المنطلق يمكن تناول دلالات اللقاء الودي الذي خصصه الملك محمد السادس لرئيس جمهورية موريتانيا الإسلامية محمد ولد الشيخ الغزواني، ليؤسس هذا اللقاء لمرحلة جديدة من التوافق السياسي والدبلوماسي بين البلدين عنوانها علاقات مستدامة دعامتها الثقة والتعاون القوي والفاعل بين البلدين، وتمتين أواصر الأخوة الصادقة بين الشعبين، حيث يعكس هذا اللقاء إيمان الطرفين بالأهمية الكبرى لضرورة ترسيخ قيم التعاون والتضامن الثنائي والإقليمي في إطاره المغاربي والعربي والأفريقي، استنادا إلى تاريخ عريق وتقاليد راسخة والعديد من المشتركات الدينية والحضارية بين الشعبين وتصور ثنائي لطبيعة العلاقات الممكنة ينطلق من مقاربات سياسية واقتصادية واقعية ترتكز على مبدأ التضامن الإقليمي وخدمة قضايا الشعوب الأفريقية، حيث تم الإعلان من الجانبين في مناسبات عديدة عن تطابق وجهات النظر والمواقف بينهما بشأن العديد من القضايا العربية والإقليمية والدولية، خصوصًا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف والجهات التي تسعى لتقويض الأمن والاستقرار وأهمية التكامل الاقتصادي.

وعلى هذا الأساس شكل هذا اللقاء رفيع المستوى بين قيادتي البلدين فرصة لاستعراض وتقييم حصيلة تعاون البلدين في مختلف المجالات، والتي تؤكدها الديناميكية التي تعرفها العلاقات الثنائية التي هي انعكاس للعلاقات التاريخية والإستراتيجية التي تجمع البلدين الشقيقين، فهذه الزيارة من المنتظر أن تعطي زخما كبيرا للحركية الدبلوماسية بشكل يعكس إرادة سياسية للارتقاء بتلك العلاقات إلى آفاق أوسع، خاصة في مختلف المجالات الإستراتيجية ذات الاهتمام المشترك وبشكل أخصّ المشاريع والمبادرات المهيكلة التي تقدمها المملكة المغربية لمحيطها الإقليمي كحلول للإشكالات والأزمات الإقليمية والقارية على شكل مشاريع إستراتيجية للربط بين البلدين الجارين، كمشروع الربط الكهربائي بين المغرب وموريتانيا ومشروع الطريق السريع الداخلة – دكار أو مشاريع لتنمية المناطق الحدودية المشتركة، وكذلك تنسيق مساهمتهما في إطار المبادرات الملكية بأفريقيا، والتي تظهر جدية والتزام وإرادة المملكة المغربية في تنمية وخدمة القضايا الأفريقية من منطلق تنموي تضامني صادق كالمشروع الهيكلي أنبوب الغاز الأفريقي – الأطلسي الذي يخدم أكثر من 400 مليون أفريقي في دول غرب أفريقيا، من بينها موريتانيا، ومبادرة تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي التي تشكل مبادرة إقليمية رائدة للاندماج الإقليمي والقاري حيث ستتحول الصحراء المغربية إلى جسر لوجستي عملاق يخدم مصالح شعوب دول الصحراء الأفريقية الكبرى وغرب أفريقيا.

المملكة المغربية من خلال هذه المشاريع تقدم نفسها للمنتظم الدولي والقاري والإقليمي كفاعل أساسي في الحفاظ على الأمن الإقليمي والقاري، وانخراط موريتانيا إلى جانب دول الساحل في هذه الإستراتيجية يؤكد على الموثوقية والجدية التي يكتسبها المغرب ومبادراته بعيدا عن المزايدات السياسية والأطماع الجيوسياسية لبعض الأطراف والدوائر الإقليمية التي مازالت حبيسة قراءة ضيقة للواقع الجيوسياسي العالمي والتطور التاريخي لديناميكيات الصراع والتنافس الدولي والإقليمي والقاري.

اللقاء الودي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني يندرج في إطار التزام المملكة المغربية بقضايا الشعوب المغاربية والأفريقية، ويجسد الرؤية الملكية المتبصرة من أجل تحقيق التنمية الشاملة للشعوب المغاربية والأفريقية، من خلال البحث عن أرضية عمل إقليمية مشتركة وفق رؤية إقليمية بمقاربة مغاربية وأفريقية خالصة، قائمة على مواجهة التهديدات الأمنية، بالاعتماد على الحوار الإقليمي الموسع ومتعدد الأطراف، لإبداع حلول تعتمد على حل إشكالية التهديدات العالمية انطلاقاً من “حلول أفريقية” وتكريس مبدأ “أفرقة” الحلول للإشكالات المهددة للأمن البشري في المنطقة. وذلك بتنسيق الجهود وتشريك كل الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية وبخاصة في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية الكبرى، حيث تلعب موريتانيا دورا محوريا في التنزيل السليم لهذه الرؤية وهو ما تجسده الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل وفق مقاربة مغربية شاملة تنطلق من التنمية والأمن المستداميْن ومركزية دور الإنسان الأفريقي في تحقيق الأهداف المشتركة.

◄ الزيارة من المنتظر أن تعطي زخما كبيرا للحركية الدبلوماسية بشكل يعكس إرادة سياسية للارتقاء بتلك العلاقات إلى آفاق أوسع

الفاعل الاقتصادي والقطاع الخاص في البلدين بإمكانهما الانخراط بشكل أكبر في تنشيط التعاون الاقتصادي، خاصة وأن المغرب من أكثر الدول الأفريقية استثمارا في موريتانيا، ما يجعل الهدف الأساسي تنمية التبادل التجاري للوصول إلى مشاريع استثمارية مشتركة ذات بعد إستراتيجي تعود بالنفع على الجانبين بشكل يعزز الشراكة القائمة على أساس الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، وعلى نحو يجعل العلاقات المغربية – الموريتانية نموذجا يُحتذى به للشراكة التنموية الشاملة والتكامل الاقتصادي في إطار دول جنوب/جنوب.

العلاقات المغربية – الموريتانية تشكل لصانع القرار السياسي في نواكشوط خيارا إستراتيجيّا محوريا في علاقاتها الخارجية، حيث تعتبر المملكة المغربية تاريخيّا وحاضرا عمقها الإستراتيجي والثقافي والروحي والبشري والاقتصادي، وبشكل خاص بعد تحرير المعبر الدولي الحدودي الكركرات من ميليشيات بوليساريو، حيث يمكن اعتبار انتصار المغرب في معركة الكركرات، عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، هدية مجانية قدمها المغرب للفاعل السياسي في نواكشوط. فهذا الانتصار حرر موريتانيا من تهديد بوليساريو للأمن الاقتصادي الموريتاني، كما أنه أعطى لموريتانيا حرية أكثر في الانتقال بين المحاور الجيوسياسية في المنطقة لأن تأمين المغرب لمعبر الكركرات الدولي بعملية عسكرية وأمنية دقيقة هو تحرير أيضا لموريتانيا من وصاية ميليشيا بوليساريو التي لا تتوانى في تهديد الأمن الإقليمي والدولي خدمة لأجندات توسعية إقليمية.

الأكيد أن موريتانيا تعتبر جزءا من العمق الإستراتيجي والحيوي للمملكة المغربية في أفريقيا، وبالتالي فحتمية التعاون والتنسيق بين المغرب وموريتانيا أصبحت مطلبا جيوسياسيا وضرورة اقتصادية في توازنات السياسة الخارجية الإقليمية سواء المغاربية أو الأفريقية أو الدولية، في أفق تأسيس شراكة إستراتيجية مندمجة وقوية وناجعة وفعالة بشكل يخدم مصلحة الشعبين الشقيقين المغربي والموريتاني من خلال تجسير هوة الخلافات السياسية بين الطرفين أو إبقائها عند مستويات تسمح للجانبين بصناعة الاستقرار الإقليمي في ظل قيم الانفتاح والتكامل بأبعاد إنسانية وتنموية شاملة.

9