المغربي إبراهيم الحيسن يقتفي أثر بدو الصحراء في معرض مفاهيمي

استكمالا لمعارض سابقة، يواصل الفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحيسن في معرضه الجديد المعنون بـ”مديح الأثر” اشتغالاته الجمالية على الأثر بأسلوب مفاهيمي، مُبرزا التحوّلات الاجتماعية في نمط حياة البدو، وخاصة في ما يتعلّق بالترحال وانتقالهم في المكان، بفعل الاستقرار الذي فُرض عليهم وكذلك انخراطهم في الحياة العصرية، وارتباط ذلك كلّه بالذاكرة والمخيلة الجمعية لديهم.
الرباط- يعرض الفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحيسن مجموعة من أعماله التشكيلية التي توزّعت بين لوحات ومجسّمات في معرضه الأخير الذي اختار له “مديح الأثر” عنوانا دالا على الخيط الناظم بين أعماله ومساره الفني الذي سلكه طيلة سنوات اشتغاله، وذلك خلال الفترة الممتدة بين 17 مايو وحتى الخامس من يونيو القادم برواق العرض الطيب الصديقي بدار الصويري في مدينة الصويرة المغربية.
وعن أعماله يقول الباحث الجمالي المغربي عبدالله الشيخ، في نص مصاحب للمعرض “فيض من العلامات والرموز الثقافية التي انزاحت عن سياقاتها التداولية المسكوكة وعن أنظمة تمثلاتها بتعبير ماكس فيبر، هي أعمال الفنان إبراهيم الحيسن التي تشتغل على أركيولوجيا الكائنات والأشياء ذات البناءات التوليفية السلسة والحية باستمرار. أعمال إدراكية وأخرى حُلمية تؤرّخ لمتعة الجسد والروح معا وتنشد فرح اللحظة الآنية ونشوتها الأولى”.

امبارك حسني: الأثر الذي يبرزه الحيسن ليس صامتا بل يعجّ بالمعاني والرموز
ويضيف “إن ما يقدّمه الحيسن هو الافتتان البصري بزمن الرُحل الغابر والظاهر بكل أخيلته وعذريته على مستوى الدهشة والكمون والاختمار. فالأعمال المشهدية الغرائبية والطلائعية التي حرص هذا الفنان الباحث على عرضها، بمثابة عتبات تصويرية وشذرات تذكارية مفعمة بالحس الجمالي والانبهار الكلي أمام عالم من القيم المفقودة الآيلة للاندحار والموت الرمزيين”.
وتضم أعمال المعرض الذي تنظمه جمعية “موغادور” مجموعة من الأعمال الفنية المنجزة خلال الفترة الممتدة بين 2017 و2021، والتي تحتفي بمديح الأثر بمنحى صباغي مختلف ومتجدّد يمتدّ لتجربة صباغية سابقة نهلت أساسا من الفكر البصري ومن ثقافة الرُحل واستعارت منهما بعض خصائصهما الجمالية والرمزية”.
أعمال حُبلى بآثار وبقايا لونية متباينة تتبادل المواقع والمحاورات الطيفية على إيقاع تعدّد الخامات والسنائد والأشياء المستعملة والجاهزة، وتحيا بداخلها مواد تلوينية محلية، أبرزها “النيلة” ببهائها الأزرق الداكن، فضلا عن مسحوق الجوز والأحبار ومواد الدمج والتغرية والمحو وغير ذلك من الوسائط التعبيرية التي تشترك في إنتاج المعنى واللذة البصرية.
وشكّلت الثقافة الصحراوية ثيمة أساسية في أعمال الحيسن، متتبعا إيقاع الحركة في الصحراء عبر صوت الريح ودقات أوتاد الخيمة وخطوات الإبل وتماوج كثبان الرمل، وكذلك في التعبيرات المادية لأهلها كالعلامات والرموز والتطريز والأزياء التقليدية وغيرها.
وعن حضور الصحراء في لوحات الفنان، يقول الباحث والمفكر المغربي إدريس كثير “يشترك الحيسن مع الشاعر المصري إدمون جابيس والروائي الطوارقي إبراهيم الكوني في شغفهما بالصحراء، فهي في نظر الشاعر المصري لوحة في حدّ ذاتها وخشوع للإنصات للصمت وبين السماء والرمال هناك كل شيء ولا شيء. الصحراء كناية عن الفراغ والعري وصمت أمكنة العبادة والوحدانية. وهي في نظر الروائي الليبي أساطير وتقاليد. رمال تمتدّ على مدى البصر وكثبان رمل كأمواج البحر. في الصحراء يوجد سرّ الكون. وغنى هذه الدلالات يجعل منها موضوع وحي وإلهام للعلماء كما للأدباء والفنانين ومن بينهم إبراهيم الحيسن”.

عبدالله الشيخ: ما تسرده اللوحات هو الافتتان البصري بزمن الرحل الغابر
كما يرصد الحيسن الأثر من خلال عدّة مستويات تتّصل بالثقافة الشفهية التي تحمل معها الأخبار والروايات وانتقلت معهم، أو في تخيّل حالات المحو والزوال والتلاشي في الآثار المتروكة على الرمال والتي تدلّ أهل الصحراء على طريقهم، وتتنوّع التقنيات التي استخدمها في التعبير عن تلك الفضاءات.
ويشير الكاتب والناقد الفني المغربي حسن لغدش إلى أن “الحيسن يتفرّغ لاستكشاف قضايا جمالية بصفته ناقدا فنيا متمكنا، إذ يقوم عمله على موضوع يشكّل نقطة التقاء بين عدد من الحقول المعرفية”، موضحا أن “موضوع الأثر المتحرّك مدعوم بحالة الذاكرة والنسيان، والتراث المادي وغير المادي، يحاول الفنان الإجابة عنه وفق تجربته وهندسة متغيّرة بين الصور”.
أما الكاتب والناقد الفني المغربي امبارك حسني فاعتبر أن “الأثر الذي يبرزه الفنان الحيسن ليس صامتا بل يعجّ بالمعاني، فهو متحدّث ومحسوس، ممّا يميّزه عمّا هو ثابت”.
ويضيف “مديح الأثر، عنوان يترك المتلقي مشدودا نحو معانيه البصرية والأستيطيقية، هل يمكننا التحدّث هنا بمفردات جمالية متوهجة حول ما هو بعيد المنال؟ ما هي الطبيعة التي تمنحنا هذه المفردات؟ يبدو أن الحيسن يحتفظ بالسر، وهو بالطبع النهج الفني الذي يختّطه عن طريق الفن”.
ويقول الحيسن الذي سبق وأن حل ثانيا في مسابقة جائزة الشارقة للنقد الفني لسنة 2017 عن بحث يتعلّق بـ”التشكيل العربي الراهن وكارتوغرافيا الفن الجديد”، عن أسباب ولوجه عالم الفن التشكيلي، إن “الهواية الموسومة بالمحاكاة والإعجاب بأعمال رسامين عالميين كبار تركوا بصمات إبداعية رائدة، هي التي منحته هذا الاهتمام”.
أعمال إبراهيم الحيس حُبلى بآثار وبقايا لونية متباينة تتبادل المواقع والمحاورات الطيفية على إيقاع تعدّد الخامات والسنائد والأشياء المستعملة والجاهزة
ويُضيف “بعد الدراسة والتخصّص، اتخذ مساري الفني والجمالي منحى آخر مطبوعا بالبحث عن الاستقلالية والتفرّد والأسلوب الخاص، وبما أنني أقطن الصحراء، فقد ساعدني الاتساع والانفتاح على الإبداع والإنتاج بما يتناغم وأفكاري وتصوّراتي وأسئلتي حول الذات والهوية والعلاقة مع المكان”.
وهو يشتغل منذ سنوات على مفهوم الأثر كثيمة تشكيلية وكموضوع جمالي مستوحى من ثقافة بدو الصحراء، مُستعينا في ذلك بدراسته للسمات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية لفهم هذا المجتمع العشائري في حدود تفكيره البصري وقدرته على الإنتاج اليدوي.
وإبراهيم الحيسن فنان تشكيلي وناقد فني من مواليد الطنطان في العام 1967. أستاذ سابق لمادة التربية الفنية بمركز تكوين المعلمين، وعضو اتحاد كتاب المغرب وباحث في الثقافة الصحراوية والأدب الشعبي الحسّاني. صدرت له مجموعة من الأبحاث والدراسات في الفن والتراث، كان آخرها كتاب “السخرية الأيقونية في المغرب”.