المعادلة الصعبة في تونس: تعايش السياسي والتكنوقراط

قيس سعيد يريد نمطا معينا في معالجة الاقتصاد ضمن ترتيب حكومي مسبق ومأذون له، ما يحد من مبادرات الوزراء ويجعلهم يعملون ضمن نسق كلاسيكي.
الأحد 2023/10/22
الوزير سار على عكس خطاب الرئيس

تشير إقالة وزير الاقتصاد التونسي إلى أن الرئيس قيس سعيد يريد نمطا معينا في معالجة الاقتصاد ضمن ترتيب حكومي مسبق ومأذون له، وأن لا حرية لوزراء الاقتصاد، الذين هم في العادة تكنوقراط ويلتزمون بأنماط معروفة لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد.

تمت إقالة وزير الاقتصاد سمير سعيّد بسبب ما تضمنه مشروع موازنة 2024 من تقليص محدود في الغلاف المالي المخصص للدعم على المواد الأساسية، وهو ما فُهم منه أن تونس تستجيب جزئيا لما يريده صندوق النقد الدولي، الذي قال منذ أيام إن شرطه لدراسة ملف تونس بشأن الحصول على القرض المؤجل (1.9 مليار دولار) يكمن في إلغاء الدعم.

تزامن التهديد المبطن الصادر عن صندوق النقد مع التفاصيل التي قدمتها الحكومة لخططها في العام القادم، والتي تقود بالأساس إلى زيادة الضرائب على الفنادق والبنوك وشركات المشروبات الكحولية والمقاهي، أوحى للرئيس سعيد وكأن الحكومة تعمل بخلاف توجهاته، وأن الوزراء التكنوقراط ينفذون خططا تتناقض مع مقاربته الاجتماعية، التي يرفض من خلالها تحميل الطبقة المتوسطة والفئات الضعيفة والفقيرة ومحدودي الدخل مسؤولية الأزمة الاقتصادية المحلية والدولية.

◙ الاستمرار في قطيعة مع خطط الحكومة وتفكير الوزراء فإن نتيجته ستكون سلبية، وأسلوب الإقالة يحد من مبادرات الوزراء ويجعلهم يعملون ضمن نسق كلاسيكي يقوم على تسجيل الحضور

هل كان وزير الاقتصاد السابق هو من وضع مشروع الموازنة خاصة بعد تصريحاته الأخيرة في اجتماعات مراكش، أم أن إقالته الهدف منها منع أي وزير تكنوقراط من التفكير مستقبلا في تقديم “إصلاحات” ومشاريع تتناقض مع أفكار الرئيس؟

يبدو أن قيس سعيد يسير على خطى المثل العامي التونسي الذي يقول “اضرب القطوسة تستحي العروسة”، أي أن إقالة وزير الاقتصاد وقبله بأشهر قليلة وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي الهدف منها توجيه رسالة إلى صندوق النقد بأن مسار رفع الدعم محسوم رسميا، وأن الضغوط لن تفضي إلى أي نتيجة حتى لو تفهمتها الحكومة وسعت لإيجاد مداخل لتنفيذها.

وكان سمير سعيّد قال على هامش مشاركته بصفته محافظ تونس في البنك الدولي، في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمدينة مراكش المغربية، إن الحل في إبرام اتفاق مع الصندوق والقيام بالإصلاحات المطلوبة.

وأضاف في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية التونسية أن إبرام اتفاق مع الصندوق من شأنه أن “يعطي إشارة قوية لبقية الممولين ويقيم الدليل على أن الإصلاحات جارية في تونس وأن البلاد قادرة على استرجاع توازناتها المالية وبلوغ حاصل أولي إيجابي يمكنها من سداد ديونها”.

وفي يوليو الماضي أكد الوزير المقال في كلمته في جلسة عامة بالبرلمان بأن “صندوق النقد الدولي يبقى الخيار الأول والمقنع لتونس إلى حد هذه الساعة”.

وعقب تلك التصريحات استدعى الرئيس سعيد وزير الاقتصاد السابق ونبهه إلى أن لتونس سياسة اقتصادية واسعة ولا يمكن سوى الالتزام بها.

وأكّد قيس سعيّد على أن الاقتصاد يجب أن يكون اقتصادا وطنيا وأن التخطيط يجب أن يكون بدوره تخطيطا وطنيا وأن تونس لن تخضع لأي إملاءات من الخارج.

وأشار رئيس الجمهورية إلى أن الدولة ليست مؤسسة مصرفية ولا يمكن أن تدار بمنطق المصارف والشركات التجارية، كما أن الذات البشرية ليست سهما في شركة أو في بورصة الأوراق المالية.

◙ من المهم أن يستمع الرئيس سعيّد للحكومة ووزرائها المكلفين بالملفات الاقتصادية والمالية، وأن يطلع على الأرقام والحقائق ويبني عليها خطته في المرحلة القادمة

وفي مايو الماضي تمت إقالة وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة القنجي، التي قالت إن “الحكومة شارفت على الانتهاء من إعداد برنامج توجيه الدعم إلى مستحقيه وخاصة في ما يتعلق بالمحروقات”.

وأضافت أن “الحكومة منكبّة على دراسة فرضيات منظومة الدعم وستتوضح تواريخ الزيادات التي قد يتم إقرارها على المحروقات”.

وعقب إعلان الإقالة مباشرة نشرت صفحة الرئاسة التونسية بموقع فيسبوك بيانًا بخصوص لقاء جمع الرئيس سعيّد برئيسة الحكومة.

وورد في البيان أن “الرئيس أكد على الدور الاجتماعي للدولة وأن تونس لن تقبل بأي إملاءات من أي جهة كانت، فالحلول يجب أن تنبع من الإرادة الشعبية التونسية وأن تكون تونسية خالصة وفي خدمة الأغلبية المفقرة التي عانت ولا تزال تعاني من البؤس والفقر”، وفق تعبيره.

وأضاف سعيّد “ليس من حق أي جهة كانت في تونس أن تتصرف خلاف السياسة التي يحددها رئيس الجمهورية.. من يريد الجلوس على مقعدين اثنين فخير له ألا يتحمّل أي مسؤولية”.

هناك مفارقة في الأمر. يفترض أن الوزراء يلتزمون بخطة رئيس الحكومة ويتصرفون بمقتضاها، وهذه الخطة عادة تأتي بالتشاور مع رئيس الجمهورية خاصة في نظام رئاسي، حيث يحكم الرئيس سيطرته على مختلف التفاصيل ويوجه بتنفيذها حسب رؤيته لأنه سيحاسب عليها في الأخير خلال الانتخابات.

ما الحل، هل يتصرف الوزراء التكنوقراط دون الرجوع إلى رئيس الحكومة الحالي أحمد الحشاني بالنسبة إلى سمير سعيّد ولرئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن بالنسبة إلى القنجي؟ هل يعتقد التكنوقراط أنهم الأقدر على الفهم والتخطيط ولا يلجأون إلى رئيس الحكومة، أم أن رئيس الحكومة يتحاشى هذه الملفات لبعد اختصاصه وخبراته عن المجال الاقتصادي ويترك المهمة لوزرائه الذين يثق بهم الرئيس طالما أنه لم يُقلهم ولم يجر تعديلا وزاريا ليعوضهم؟

لماذا تتم الإقالة بعد الحديث عن خطط تفصيلية للحكومة في وسائل الإعلام، وهو ما يعني أنها عرضت على رئيس الحكومة وأخذ علما بأهم مفاصلها وتوجهاتها، فلماذا لم يعرف الرئيس بها ولم يطلع عليها؟

◙ إقالة وزير الاقتصاد سمير سعيّد تمت بسبب ما تضمنه مشروع موازنة 2024 من تقليص محدود في الغلاف المالي المخصص للدعم على المواد الأساسية

من المهم فهم سرّ هذا الاختلاف في المقاربة. الوزراء يعتمدون على تقارير وأرقام ودراسات حكومية تقود إلى نتيجة مفادها أن البلاد في حاجة إلى تمويلات خارجية عاجلة. وطالما أن الجميع، بما في ذلك الوعود الأوروبية والعربية، يقولون حلّوا مشاكلكم مع صندوق النقد وتعالوا، فإن لا حل سوى العودة إلى التفاوض مع الصندوق، والحوار بشأن شروطه، ونقل مخاوفنا له من جديد بشأن قضية الدعم.

من المهم أن يستمع الرئيس سعيّد للحكومة ووزرائها المكلفين بالملفات الاقتصادية والمالية، وأن يطلع على الأرقام والحقائق ويبني عليها خطته في المرحلة القادمة، وأن يطلق يد الحكومة لتتفاوض مع الصندوق وتقدم المحاذير التي تريد تونس أن تتجنبها، خاصة مسألة الدعم.

لكن الاستمرار في قطيعة مع خطط الحكومة وتفكير الوزراء فإن نتيجته ستكون سلبية، وأسلوب الإقالة يحد من مبادرات الوزراء ويجعلهم يعملون ضمن نسق كلاسيكي يقوم على تسجيل الحضور والعمل البيروقراطي وترديد ما يقوله الرئيس من دون تنفيذه على أرض الواقع، فهل هذا ما يريده الرئيس فعلا، أم من الأفضل أن تترك الأمور أكثر حرية للوزراء لكي يقدموا أفضل ما عندهم من مبادرات وأفكار وبرامج حتى لو اختلفت مع مقاربة الرئيس وشعاراته والتزامه بخدمة الفئات الفقيرة بالأسلوب التقليدي؟

والسؤال الذي يطرح الآن: إلى متى سيستمر هذا التباين، وكيف نحله، ومن سيتنازل؟ الرئيس الذي يفكر بكل شيء وهو صاحب القرار في الكبيرة والصغيرة، أم تقارير الوزراء وأرقام الواقع، وهل سنجد من الوقت والإمكانيات لإدارة هذا الخلاف من دون أن تجد تونس نفسها في وضع أكثر صعوبة من الآن؟

6