المصري طارق إمام: الحكايات المُدهشة صنيعة لتحولات المُدن

تبدو المُدن المكتظة والعامرة مثل القاهرة في تقلباتها عبر الأزمنة منبعا لحكايات لا تنتهي لبشر حيرتهم أسئلة المكان وسكنتهم ألغاز الحراك وتعاقب الزمن فصنعوا عوالم سحر تفيض مشاعر وانفعالات تستحق أن تُحكى وتُخلّد وتُكتب وهو ما قام به الكاتب المصري طارق إمام الذي كان لـ"العرب" هذا الحوار معه.
تعد رواية “ماكيت القاهرة” للأديب المصري طارق إمام، والتي ستصدر خلال أيام عن دار المتوسط بميلانو، نموذجا لنص راصد لتحولات المكان والبشر في مكان شديد الازدحام، ويفيض بالصخب مثل العاصمة المصرية.
تنطلق الرواية من لحظة في المستقبل، عام 2045، حيث يعلن غاليري للفنون في قلب القاهرة عن مشروع فني استيعادي ينهض على إعادة تشييد نسخةٍ كاملة مصغرة من القاهرة قبل خمسة وعشرين عاماً، أي عام 2020، من خلال ماكيت للمدينة.
يطلب الغاليري صانعي مصغرات لتوزيعهم على المشروع، بحيث يتولى كل من يقع عليه الاختيار تشييد ماكيت لمنطقة محددة قبل أن تلتئم جميع الوحدات في صورة كلية للقاهرة التي أصبحت عاصمة مصر السابقة، ويبرز أحد أبطال الرواية الذي كان طفلاً في ذلك التوقيت (2020) ويمثل له ذلك العام ذكرى لا تُنسى، حيث أقدم فيه على فعلٍ غيّر حياته للأبد. من هذه اللحظة تنطلق الرواية في ثلاثة أزمنة رئيسية هي 2045، 2020، و2011، ويتمحور كل منها حول شخصية محددة، يكمل بعضها البعض.
تأسيس النص

كتاب يرصد لتحولات المكان والبشر في مكان شديد الازدحام
حول قدرة فن الرواية على قراءة تحولات المُدن في الأزمنة السابقة واستقراء مستقبلها، يؤكد إمام أن السؤال عن مستقبل القاهرة ليس وليد اللحظة، قائلا “في 2011، ومع قيام ثورة يناير في ذلك العام، رأيت قاهرة لم أرها من قبل، وكانت المرة الأولى التي تصبح فيها المدينة التي أخشاها مدينة أخشى عليها، مع سيل أسئلة بلا حصر عن المستقبل”.
ويشير إلى أن أسئلة المستقبل التي دارت في ذهنه وأسست لمشروعه السردي الأحدث كانت من عينة: ماذا لو احترقت القاهرة مثلاً؟ ماذا لو فقدت قدراً من هوية أمكنتها التاريخية، وعلى رأسها المتحف المصري، ذاكرة التاريخ كله؟ وكيف ستصبح القاهرة، خاصة وأنها نفسها دكتاتور يستأثر بكل شيء، تاركة تحت قدميها حفنة مدن قزمة تكمل ديكور الدولة؟
ويوضح أن حكم جماعة الإخوان المسلمين لمدة عام عمَّق السؤال عن قادم المدينة التي لم تدر ظهرها يوماً للحياة وباتت فجأةً مهددةً بأن تكون خيمة للرجعية وفاقدةً لهويتها بالكامل، “إننا الآن، حيث يطرأ سؤال مستقبل القاهرة في سياقٍ آخر، فثمة عاصمة جديدة لمصر، ستُجرد القاهرة أخيراً من لقبها، كيف ستكون وضعية القاهرة مستقبلاً؟ وإن كانت نجت من الحريق هل ستنجو من البيع؟ هل يمكن أن نستيقظ ذات يوم لنجد وسط القاهرة الشهير مكانا لا نعرفه بعد تفكيك وبيع أبنيته، وربما هدمها من أجل صروحٍ جديدة ينهض بها من دفعوا الثمن”؟
ويبيّن إمام لـ”العرب” أن هذه الأسئلة لا تغادره، ويعتقد أنها حاضرة فنياً داخل الرواية، فهو يحب أن يتعامل مع المكان والناس باعتبار كل منهما انعكاساً للآخر، فالفصل بين المكان وقاطنه محض فصل إجرائي لا وجود له في الواقع أو الفن، فهو يؤمن بأن الأمكنة تخلق قاطنيها.
ويقول إن دوافع كتابة أي نص روائي غالباً ما تكون كثيرة ومتداخلة ومعقدة، وهو مسكون منذ سنوات بكتابة نص عن تحولات القاهرة، انطلاقاً من ثورة يناير 2011 وطرح تساؤلات عديدة عن هوية المدينة نفسها التي شهدت خلال عقد واحد خلخلات عنيفة ربما لم تشهدها بهذه الحدة منذ عقود، وفي القلب من ذلك كان لديه طموح لقراءة جيل محدد، ينتمي له، حيث تمثل الشخصيات الرئيسية في الرواية جيله في لحظات فارقة، ومن الضروري مناقشة علاقة الفن بتحولات المدينة، والجدل الدائر بين المتخيل والواقعي والتاريخي داخل النص الأدبي نفسه.
يحكي طارق إمام لـ”العرب” أنه كتب الفقرة الأولى في رواية “ماكيت القاهرة” في مثل هذه الأيام عام 2011. وكانت عبارة عن مقطع متماسك نشره على حسابه الشخصي على فيسبــوك، مستشعراً أنه أكبر من مشهد أو من لبنة قصة، قائلا “الفقرة الأولى كانت تخبرني أنها تأسيس لرواية ما”.
ويلفت إلى أنه في النصوص التي كتبها بعد ذلك لم يقترب من هذا المشهد وقاوم إغراء تضمينه في رواية أو إدراجه في مجموعة قصصية، قائلا “كنت أعرف أن بطل المشهد هو بطل رواية، سيقودها، وظللت أطور شخصيته في ذهني، بينما تسيطر مناخات ثورة يناير التي أجادلها كل يوم باحثاً عن روايتي الشخصية في ذلك الحدث الراديكالي ثم في تبعاته، وعندما أستعيد الآن هذه الواقعة وأفكر أن عشر سنوات مرت عليها، أندهش”.
ويضيف “الرواياتُ لا تكتب في الحيز الزمني الذي نضعه تحت السطر الأخير (عامان، ثلاثة أعوام، خمسة..) بل تستغرق وقتاً أكبر من ذلك بكثير، ننساه أو نتغاضى عنه أو نعتبره، بقدرٍ من الجحود، فائضاً عن زمن الكتابة الفعلي”.
وحصلت “ماكيت القاهرة” بهذه الديباجة القديمة على مشهدها التأسيسي، والذي كان مشهداً مركزياً في الرواية كلها حتى سطرها الأخير، قبل نحو عشر سنوات.
ويوضح لـ”العرب” أنه منذ كتابة هذا المشهد لم يغير فيه حرف على وجه التقريب، وخشي أن يفسده، وقد أتى مكتملاً بإلهامٍ ما، رغم أن الرواية نفسها خضعت لعمليات منهكة من إعادة الكتابة، ومنذ أواخر عام 2011 وحتى أواخرعام 2012 انخرط في كتابة مسودة أولية للرواية، ومعها جاء عنوان “ماكيت القاهرة”، مرة واحدة، وبخلاف أغلب رواياته، لم يكن واحداً من ضمن عناوين أخرى تخضع للمقارنة في النهاية، واعتمده عنواناً للرواية، التي اعتقد في ذلك الحين أنها ستكون مشروعه القادم، غير متخيل أن ثلاثة كتب ستصدر قبل أن يشعر أخيراً أن “ماكيت القاهرة” أصبحت محطته القادمة.
طارق إمام يؤكد أن الأدب عنده طريقة لاستحضار عدد من الأسئلة الكبرى ولا يمكن أن يستبعد اللغة باعتبارها شيئا غير مركزي، فكل الأدباء العظام عظام لأنهم قدموا لغة بديعة
ويذكر أنه كتب مسودات كثيرة لهذه الرواية، فطيلة الوقت كان الموضوع في ذهنه والشخصيات والحبكة، لكن شيئاً ما في النغمة العامة والإيقاع كان يُشعره أنه لم يكتب بعد النص كما يستشعره، حتى أنه مزق نسخة كاملة شبه منتهية أوائل عام 2013 لأنه شعر أنها بحاجة لإعادة كتابة شاملة، وكان وجود نسخة شبه جاهزة عبئاً ثقيلاً، إذ كلما بدأ لم يكن يستطيع مقاومة إغراء العودة إلى النسخة والاقتباس منها وهو ما كان يعيق في الحقيقة عملية إعادة الكتابة.
ويؤكد أن حراك الواقع كان يفرض نفسه على الرواية فيطورها معه، وعاماً بعد عام كان يلاحق شيئاً جديداً ويختبره في الرواية، ويدرك أنها مفتوحة كالحياة على ما يطرأ، وكان هذا أيضاً من صعوبات “ماكيت القاهرة” فاللحظة التاريخية التي تنطلق منها سائلة ولم يُغلق قوسها، وبالتالي فكل يوم جديد يحمل فكرة جديدة ليست ببعيدة عن مناخ النص حتى صارت سنة 2020 مثلاً مركزية في النسخة النهائية وبالطبع لم يكن هذا يحدث في مسودات سابقة.
ويلفت إمام في حواره مع “العرب” إلى أن الرواية ظلت قيد الكتابة حتى عندما قطعتها مشاريع أخرى، لكنه في كل ذلك كان يعود إلى الرواية التي ظن في بعض الأقات أنها لن تكتمل أبداً، وكُتبت النسخة النهائية خلال الفترة من 2018، وحتى نهايات 2020، مؤسسةً على أكثر من مسودة، فضلاً عن ذلك كانت عشر سنوات على ثورة يناير قد وفرت مسافة أفضل للتأمل وقدراً أقل من الانفعال.
تساؤلات الإبداع
يؤكد إمام أن الأدب عنده طريقة لاستحضار عدد من الأسئلة الكبرى ولا يمكن أن يستبعد اللغة باعتبارها شيئا غير مركزي، فكل الأدباء العظام عظام لأنهم قدموا لغة بديعة، واللغة جزء أصيل من مشروعه الأدبي، فالمعنى لا يأتي إلا ملتبسا بلغته، والفكرة تولد مندمجة مع لغتها، لأن الفصل بين العناصر الابداعية يمكن أن يكون فصلا إجرائيا لكنه يستحيل عمليا.
ويرى أن إحساس الكاتب باللغة موهبة، توجد أو لا توجد، ولا يمكن افتعالها أو اصطناعها، وإذا كان بعض الكتاب يحاولون اصطناع لغة شعرية، فإنه ما لم تكن نظراتهم إلى
العالم هي في الأساس نظرات شعرية فمن المستحيل عليهم أن ينتجوا لغة شعرية.
مهمة الروائي كيف يحكي حكاية باحثا داخل سردها عن أثرها الشعري الذي يجعلها أكبر من مجرد حكاية
ويضرب مثلا بأن رحلة الموت هي رحلة سردية، لكنّ الأثر الذي تتركه أثر شعري، كذلك الولادة فهي لحظة سردية لكن آثارها شعرية بحتة، فمهمة الروائي كيف يحكي حكاية باحثا داخل سردها عن أثرها الشعري الذي يجعلها أكبر من مجرد حكاية.
وطارق إمام أحد أبرز الروائيين من جيل الوسط في مصر، إذ ولد سنة 1977 بمدينة دمنهور، شمال القاهرة، وعمل بالصحافة، وقدم عشرة كتب بين روايات ومجموعات قصصية، من أبرزها رواية “هدوء القتلة”، و”الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، و”الأرملة تكتب الخطابات سرا”، و”مدينة الحوائط اللانهائية”، وفاز بعدة جوائز في الكتابة، من بينها جائزة سعاد الصباح بالكويت، وجائزة الدولة المصرية التشجيعية، فضلا عن جائزة ساويرس المصرية لدورتين مختلفتين.
وكتب إمام منذ عامين روايته “طعم النوم” ليُعارض بها روايتي ياسوناري كواباتا “منزل الجميلات النائمات”، وغابريال غارسيا ماركيز التي تحمل عنوان” ذاكرة غانياتي الحزينات”، وآثارت الرواية جدلا واسعا في الأوساط الأدبية.