المصري أنسي أبوسيف: في زمن الاستسهال تراجع الاهتمام بالديكور

الديكور المفصل خصيصا للعمل قادر على مساعدة المخرج في اختيار زوايا التصوير الأفضل ووضع الكاميرا في أماكن أنسب.
الأربعاء 2021/03/17
فنان خاض رحلة خمسين عاما مع الديكورات والمناظر

لا يكتمل العمل الدرامي سواء في التلفزيون أو السينما إلا باكتمال عناصره الفنية، وتأتي مهمة “الآرت ديركتر” في السينما الأميركية، والتي اختارت السينما العربية ترجمتها بالمدير الفني كحجر أساس في جل الأعمال الدرامية، ويحظى اسم مهندس الديكور الفنان المصري أنسي أبوسيف بحضور هام في هذا المجال بسبب تنوع عمله الفني وإبداعه فيه. “العرب” كان لها هذا الحوار معه.

بدأت فكرة مهندس الديكور أو كما كانت تسمى مهندس المناظر منذ وقت مبكر من تاريخ الدراما المصرية، تقريبا منذ الستينات، وكانت تلك المهنة هامة وضرورية خاصة في الأعمال التاريخية أو التي لها علاقة بتجسيد البيئات المحلية لدرجة باتت معها مهنة مهندس المناظر كما يقول الفنان أنسي أبوسيف “قادرة على تجسيد الفيلم بشكل جيد فنيا أو إسقاطه نهائيا، من هذا المنطلق كان البحث عن فناني المناظر أو مهندسي الديكور ضرورة حقيقية لا يمكن تجاهلها وخاصة لدى كبار المخرجين ممن عملوا في حقلي السينما والتلفزيون”.

ويعتبر أنسي أبوسيف الملقب بالمدير الفني أحد أهم أعمدة تلك المهنة في مصر، ليس هذا فحسب بل هو واحد من أهم مهندسي الديكور أو المناظر الذين عملوا في معظم الأفلام السينمائية التي نالت قدرا كبيرا من الشهرة والجوائز، ولكنه رغم ذلك يبقى فنان الظل الذي لا يعرفه المشاهد ولا يسلط عليه الضوء.

مهنة المدير الفني

أنسي أبوسيف تم تكريمه بجائزة الإنجاز الإبداعي بمهرجان الجونة لعام 2020

كانت مهمة مهندس الديكور أو المناظر تبدأ في مرحلة مبكرة جدا من إنتاج أي عمل درامي، وهي مرحلة تسبق مرحلة إسناد الأدوار للممثلين، يقول أبوسيف “بعد أن يتفق المخرج مع المنتج على العمل، يتجه مباشرة لمصمم الديكور أو المناظر الذي يقرر ويرشح له شكل وأماكن التصوير المناسبة للعمل، وبناء عليه إما أن تكون تلك الديكورات والمقترحات متاحة وموافقا عليها إنتاجيا أو صعبة”.

ويستطرد “لكن نجاح مهمة مهندس المناظر يتعلق بوجود منتج يمتلك حسا فنيا خاصا يسهل التعامل والتفاهم معه، فيوسف شاهين على سبيل المثال، وهو منتج وليس فقط مخرجا، كان يبني ديكورا لحي كامل بهدف تصوير مشهدين، لأنه كفنان كان يعرف تماما القيمة الدرامية لبناء أي ديكور، بينما منتجو هذه الأيام لا يفكرون ببناء ديكورات ضخمة إلا بعد ضغط ومحاولة توضيح وشرح من المخرج لأهمية ذلك الديكور في العمل”.

ويلجأ اليوم معظم المنتجين للتصوير ضمن المواقع الحقيقية سواء داخل المنازل والمكاتب والقصور أو خارجها، كما في الحدائق والشوارع العامة، وبذلك تراجع الاهتمام بالديكور وبات الاستسهال سيد الموقف، لدرجة كما يشير أبوسيف “لم يعد هذا البند أو حتى هذا الفنان حاضرا وعنصرا أساسيا في بناء العمل، فالعرف السائد حاليا سواء في الدراما التلفزيونية وحتى السينمائية، أن المشاهد التي ستصور في الشوارع أو الأحياء وتستغرق فقط يوما أو يومين، فإنه من الأفضل تصويرها في أماكنها الطبيعية على اعتبار أن جهاز الإنتاج قادر على تأمين المكان لتلك الفترة القصيرة، ولكن في حال استمرار التصوير لمدة تقارب الأسبوعين أو أكثر فمن الأفضل إعادة بناء الشارع أو الأحياء في استديوهات خاصة، لأن ذلك سيوفر على المنتج الكثير من إضاعة الوقت الذي يسببه الازدحام والفوضى وصعوبة تأمين المكان”.

وكما يرى أبوسيف، رغم الاستسهال وخوف المنتج من التكاليف الإضافية، تبقى الاستديوهات الخاصة ذات ميزة كبيرة فهي تتيح إمكانية التصوير بشكل متواصل ولفترة زمنية طويلة قد تمتد إلى ما يقارب الـ20 ساعة، كما أن الديكور المفصل خصيصا للعمل قادر على مساعدة المخرج في اختيار زوايا التصوير الأفضل ووضع الكاميرا في الأماكن التي يراها مناسبة للمشهد.

ولعبت الطبيعة الخلابة لمدينة أسوان التي ولد ونشأ فيها أبوسيف قبل أن ينتقل إلى القاهرة دورا هاما في مسيرته الفنية، فالصفاء والنقاء الموجودان في مدينته كانا السبب الرئيسي في تركيزه على ما يريد إبرازه في المشهد دون غيره من التفاصيل.

مهندس الديكور مسؤول عن كل ما يحتويه كادر التصوير من تفاصيل بما فيه الممثلون والإضاءة ودرجة الضوء وغيرها

ويقول أبوسيف “كانت بلدتي التي عرفت بزراعة قصب السكر تمتلك تنوعا كبيرا في الجنسيات بسبب مصانع السكر ومصانع اللبان التي بناها الإنجليز وقام بإدارتها اليهود، وكانت للموظفين العاملين في تلك المصانع مبان للإقامة من طراز إنجليزي، أما الموظفون المهاجرون للبلدة والعمال فكانت لهم مبان أخرى أقل في المستوى الاقتصادي، وهذا التنوع العمراني شكل جزءا مهما جدا من ثقافتي الشخصية فبدأت أربط بين مستوى المبنى وسكانه اقتصاديا ووظيفيا، فالخواجة الإنجليزي لديه منزل مختلف تماما عن الموظف القادم من أجل العمل ومختلف عن الفلاح الريفي”.

ويضيف “غالبا هذه الملاحظات كانت السبب المباشر في قبولي كطالب ديكور في المعهد العالي للسينما لأنهم سألوني في الامتحان الشفهي حينها حول أشكال المباني فشرحت لهم عن مدرستي وشكلها وعن المصانع والمنازل، وأدركت لاحقا أن الأماكن كانت تستهويني”.

ولم يكتف أبوسيف بالعمل كمهندس للمناظر والديكور فخاض في تصميم الملابس والإكسسوارات والإضاءة لدرجة أطلق عليه لقب المدير الفني، وهو التعبير المستخدم في السينما الأميركية، وعن ذلك اللقب يقول أبوسيف “كان مهندس الديكور مسؤولا عن كل ما يحتويه كادر التصوير من تفاصيل بما فيه الممثلون والإضاءة ودرجة الضوء، بمعنى لم يكن مهندس الديكور، وهو تعبير وصل للسينما عن طريق الفرنسيين، مجرد فنان يزخرف المكان ويجمله، وهذا هو السبب في تعديل اسم المهنة لتصبح المدير الفني”.

ويعتبر أبوسيف نفسه محظوظا لأنه تتلمذ على يد شادي عبدالسلام وعمل معه لأول مرة في فيلم “المومياء”، ولا ينكر الفضل في ذلك لصديق رحلته وتوأم روحه صلاح مرعي الذي كان المشرف العام على النحاتين في الفيلم، يقول أبوسيف “شادي بدأ يدرسني منذ السنة الثانية في المعهد ولاحظ قدرتي على الرسم، فطلب مني زيارته فانبهرت بطريقة عمله وثقافته الموسوعية ورصانته، وكأنني منذ تلك الزيارة اخترته ليكون أستاذي ولأتعلم على يديه، هو فنان لا يمكن وصفه بالكلمات”.

كما يعتبر نفسه محظوظا أيضا لأنه بدأ العمل بعد تخرجه مباشرة في فيلم سينمائي مع مخرج كبير من وزن توفيق صالح في فيلم “يوميات نائب في الأرياف” الذي صورت مشاهده داخل الاستديو، ويعتبر أن تجربته تلك وضعته على أرضية وأسلوب خاص لم يعد بإمكانه التراجع عنه، وهي الأرضية التي جعلته يتوقف عن العمل لفترات طويلة وخاصة في المرحلة التي بدأت فيها السينما تصبح تجارية أو ما اصطلح على تسميتها بـ”سينما المقاولات” وهي، كما يقول، سينما لا علاقة لها بالسينما.

ظاهرة فنية

أنسي أبوسيف يعتبر أحد أهم أعمدة مهندسي الديكور أو المناظر الذين عملوا في معظم الأفلام السينمائية التي نالت قدرا كبيرا من الشهرة والجوائز

امتدت رحلة عطاء أبوسيف ما يقارب الخمسين عاما تعاون فيها مع أهم المخرجين أمثال محمد خان في “أحلام هند وكاميليا” وخيري بشارة في “يوم حلو يوم مر” ويسري نصرالله في “سرقات صيفية” ويوسف شاهين في “إسكندرية كمان وكمان” ورضوان الكاشف في “عرق البلح” وغيرها من الأفلام، وهو يمتلك اليوم في مرسمه الخاص العشرات من الاسكتشات التي رسمها عن تلك الأماكن التي قام بالعمل عليها فنيا.

 لكن تجربته مع المخرج المصري داوود عبدالسيد تعتبر من أهم محطات حياته، على اعتباره مهندس الديكور الوحيد الذي رافق عبدالسيد في جميع أعماله السينمائية باستثناء فيلم واحد بعنوان “البحث عن السيد مرزوق”.

وعن ذلك التعاون يقول أبوسيف “بدأت بالعمل مع داوود منذ فيلمه الروائي الطويل الأول ‘الصعاليك‘، هو فنان يمتلك مشروعه الثقافي كما أنه يمتلك رؤية فنية مميزة يعرف من خلالها أهمية المكان الذي ستتحرك فيه الشخصيات والدلالات التي ستصدر عنه”.

ويضيف “كنت قد ارتبطت به منذ أيام دراستنا في المعهد ثم تحولت تلك الزمالة لاحقا إلى صداقة وجيرة، كنت ألتقيه يوميا ولطالما اعتبرته الجزء الهام من ثقافتي، فهو غزير الثقافة شديد الاطلاع والقراءة، كان يخبرني بكل ما يقرأه أو يطلع عليه، وأعتقد أنه السبب في معرفتي لإمكانياتي الفنية، وأظن أنني قرأت كل السيناريوهات التي كتبها سواء التي نفذت أو التي لم تنفذ بعد”.

ويعتبر فيلم “الكيت كات” واحدا من أهم أفلام عبدالسيد وأكثرها شهرة على صعيد عربي، ليس فقط بسبب السيناريو والإخراج المميزين، بل أيضا بسبب الديكور الذي أصر المخرج عليه والذي أجبره على التوقف ما يقارب الخمس سنوات قبل أن يوافق عليه المنتج الفلسطيني حسين القلا.

وعن صعوبة تلك التجربة يقول أبوسيف “حين عرض علي العمل في الفيلم كنت قد انتهيت توا من بناء ديكورات فيلم ‘بونابرت‘ للمخرج يوسف شاهين، وكانت الديكورات تمثل صورة مصغرة للقاهرة القديمة، حي إسلامي تاريخي كامل بكل ما يحتويه من بيوت ودكاكين، ووجدت الحل في إعادة بناء الحي العشوائي المطلوب لفيلم الكيت كات في نفس المكان ‘استديو جلال‘ على أن نستفيد من المواد الخام نفسها (إعادة تدوير)، وبالفعل قبل شاهين الاقتراح لأنه بالنهاية منتج ويعرف أنه بالإمكان تأجير هذا المكان (الحي العشوائي) لاحقا”.

ويبقى اسم أنسي أبوسيف ظاهرة فنية مرت على السينما المصرية في عصرها الذهبي.

ديكور ديكور ديكور
ديكور ديكور ديكور

 

15