المصريون يقبلون على السجائر هربا من سجن كورونا النفسي

ضاعفت جائحة كورونا من العلاقة الوثيقة بين المصريين والسجائر والنرجيلة، بعدما جذب التدخين قطاعا جديدا من الطامحين في التحرر من الضغوط النفسية الكبيرة التي يتعرضون لها ليلا ونهارا، كذلك جذب فئة من محدودي الثقافة الباحثين في سموم الدخان عن ترياق للوباء.
القاهرة ـ وصل ارتباط السبعيني عبدالصمد السوهاجي بالتدخين لدرجة إلقائه يمينا معلقا بالطلاق من زوجته لتناول سيجارة يعترض عليها الركاب في أحد قطارات الدرجة الثالثة المتجهة من القاهرة إلى الإسكندرية، وأن يدفع غرامة تناهز 5 دولارات لأجل الاستمتاع بدخانها، رغم ملابسه المتواضعة التي تشي بتواضع أحواله المالية.
ولم تمنع زيادة الغرامات في القطارات المصرية إلى سبعة أضعافها بعض الركاب من الاستمرار في التدخين، فهم يخاطرون بحياتهم من أجلها وذلك بالوقوف على القطع الحديدية المتحركة بين العربات، أو على الأبواب المفتوحة للهروب من أعين الشرطة، وفي حال تغريمهم يدخنون كميات أكبر بأريحية شديدة، طالما أنهم لن يدفعوا غرامة مجددا.
وقبل أيام، تلقى مسؤولو شركة “الشرقية للدخان”، المحتكرة للسجائر المحلية في مصر، صدمة مع صدور مؤشرات استهلاك نوفمبر الماضي، حيث دققوا في الأرقام أكثر من مرة بعدما ظهرت على حواسيبهم 6 مليارات سيجارة تم تعاطيها في 30 يوما فقط، بما يعادل 139 ألفا لكل دقيقة.
ويدخل قطار الثامنة مساء محطة القاهرة قادما من جنوب مصر، قبل استكمال سفره إلى الإسكندرية، لتنطلق سُحب الدخان التي تراكمت طوال سيره 12 ساعة من أبوابه بمجرد فتحها، وغالبا ما يطالب الركاب الذين لم ينهوا رحلتهم الوافدين الجدد عليهم بأن يبحثوا عن مكان آخر، إذا كانوا من غير المدخنين.
ويقول السوهاجي، الذي يستهلك قرابة 60 سيجارة خلال رحلته بالقطار، إنها تساعده على قتل أوقات الملل والانتظار في طريق طويل من بلدته بالمنيا، وحتى عمله كحارس عقار بالإسكندرية، وينفس فيها غضبه من تأخر القطار عن موعده المقرر وضجيج الركاب وصخبهم المستمر.
وينكر العجوز أن تكون للسجائر أضرار صحية قياسا مع حاله، فيقول إنه لم يزر يوما طبيبا رغم عمره الطويل، ولا يشكو من أمراض في الجهاز التنفسي، لكنه لا يسمح لزوجته التي تجاوره في مقعده بأن تتحدث باستفاضة عن نوبات السعال التي يتعرض لها ليلا، ويعزوها إلى عدم إجادتها (زوجته) الطهي، ووضعها كميات كبيرة من بهار الفلفل الأسود في الطعام.
وتتنافى معدلات الاستهلاك التي سجلتها الشركة للسوق المحلية مع الدراسات الصادرة عن المراكز البحثية العالمية، وتفيد بتراجع نسب التدخين بفضل جائحة كورونا ومخاوف المدخنين من مضاعفاتها عليهم، ما يثير الكثير من الأسئلة حول الأسباب التي تدفع المصريين إلى التدخين؟
وظل التنامي الكبير في معدلات التدخين في مصر مرتبطا بغياب الثقافة المجتمعية، حتى بين ذوي التعليم المرتفع الذين يزعمون أنها تمثل متنفسا لتحسين حالتهم المزاجية، أو وسيلة لإثبات الصفات الرجولية، قبل أن يضيف كورونا أبعادا جديدة تشجع على الاستهلاك بزعم وجود فوائد صحية لها.
وفي زمن كورونا التف الكثير من مدخني “المعسل” على المنع الحكومي وأسسوا مقاهيَ في الخفاء في أماكن معزولة وقصور بعيدة عن أعين الأمن، ووصلت السخرية إلى درجة استحداث بعضهم ثقوبا في الأقنعة على مقاس فوهة النرجيلة.
مفاهيم خاطئة
يمسك محمود عبدالمطلب، الذي سوف يتخرج في كلية التجارة بعد شهور قليلة، بالسيجارة في يده ويخرج رأسه بالكامل من زجاج حافلة النقل الجماعي التي يستقلها حتى ينفث أدخنتها دون اعتراض من أحد، فالإطفاء أصبح قرارا غير سهل، بعدما ارتفع سعر الواحدة من النوع الذي يدخنه.
ولا يملك الشاب قدرات مالية تؤهله لشراء علبة سجائر كاملة ويشتري من الأكشاك الصغيرة ثلاث سجائر يوميا، يحفظها داخل علبة كرتونية لماركة أميركية شهيرة، حفاظا على الوجاهة الاجتماعية أمام زملائه، وأحيانا يسطو على بعض السجائر من والده.
ويؤمن بأن السجائر لديها القدرة على قتل وباء كورونا، ولا يرتدي كمامة أو يستخدم مطهرات، ويوجه أسئلة استنكارية مع من يفتح معه الحوار: كيف لا تعرف أن السجائر تقتل الوباء؟ وحين يتم الاستفسار على مصدر معلوماته، يقول، فيسبوك.
وينتمي عبدالمطلب إلى نوعية عريضة من المصريين تؤمن بأن ما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي صحيح، ويسيء تأويل الأخبار المنشورة، فجعل التجارب التي تجريها الشركة البريطانية – الأميركية للتبغ “بات” على لقاح مضاد لفايروس كورونا، باستخدام التبغ، كما لو كانت أمرا نهائيا لا يقبل التشكيك.
6 مليارات
سيجارة تم تعاطيها خلال نوفمبر الماضي فقط، بما يعادل 139 ألفا لكل دقيقة
ويجمع خمسة من تجار السجائر لـ”العرب”، على ارتفاع المبيعات بصورة ملحوظة منذ مارس الماضي، فمن كان من الزبائن يشتري علبة رفعها إلى اثنتين، كما تحولت النرجيلة الإلكترونية إلى موضة منذ توقف النرجيلة رسميا بالمقاهي في المدن، رغم ارتفاع أسعارها لتعادل الواحدة 30 دولارا.
وفقا لآخر الإحصائيات الرسمية، فإن عدد المدخنين في مصر يقدر بنحو 11 مليونا، وغالبيتهم من الفئة العمرية بين 45 و54 عاما، ويبلغ المتوسط العام لإنفاق الأسرة المصرية على الدخان نحو 5 في المئة من إجمالي إنفاقها السنوي بما يعادل 400 دولار.
وحاولت الحكومة الحد من استهلاك السجائر التي تتسبب في موت 171 ألف شخص سنويا بأمراض السدة الرئوية وسرطان الجهاز التنفسي، برفع أسعارها 600 في المئة منذ عام 2007، لكن الخطة لم تؤت ثمارها، فما حدث هو تنامي حجم الاستهلاك مع تغيّره من الفئات الأعلى سعرا إلى الأقل.
وعادت وزارة الصحة ووضعت خطة أخرى بإجبار الشركة الشرقية للدخان على وضع صور مُنفرة على منتجاتها، مثل طفل بقناع للتنفس في غرفة للعناية المركزة، أو أخرى لقدم مبتورة، وثالثة لرئة متليّفة ورابعة لأسنان تهالكت من الدخان، لكنها لم تمنع المدخنين من هجرها، وبعضهم ألصق فوقها صورا جميلة مُقتطعة من المجلات.
وانضم شريف محمود، المحاسب في أحد البنوك، إلى عالم المدخنين قبل شهور فقط بعدما وجد في السيجارة رفيقا للوحدة في فترات حظر التجوال، وأنيسا أثناء قضاء أمسياته بشرفة شقته الصغيرة في متابعة الشوارع الخالية من الحياة.
وكان محمود يقضي سهرته اليومية منذ انفصاله عن زوجته في جلسات السمر بالمقاهي مع أصدقائه دون أن يدخن معهم، وفجأة وجد نفسه وحيدا في المنزل وبدأ في تجربتها كنوع من قضاء الوقت، فتحول حاليا إلى مُدخن شره.
وتكشف بعض الدراسات عن علاقة ارتباط بين القلق والاكتئاب لدى المدخنين، فالكثير من الطلاب على سبيل المثال جرّبوها في أوقات الرهاب الملازمة للانتقال من التعليم المدرسي المنغلق إلى أجواء الجامعة بانفتاحها، خاصة غير الاجتماعيين منهم.
وأكد الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن التدخين يرتبط عند المصريين بموروثات معنوية خاطئة تتعلق بالتنفيس عن الضغوط أو اكتساب صفات ذكورية والتحرر من المشكلات، فغالبية المدخنين يتزايد استهلاكهم قبل المقابلات المهمة أو في حال التفكير في المشكلات الدقيقة.
سيجارة المشاهير
ارتبطت بداية التدخين لدى قطاع من كبار السن بتلك الأسباب مع موجة من الإعلانات في سنهم المبكرة، ضمت ثنائيات فنية شهيرة مثل أنور وجدي وليلى مراد، وفاتن حمامة وعزالدين ذو الفقار، وربطت السجائر بالرجولة وجذب انتباه النساء.
وجذبت السجائر عددا من مؤلفي الأغاني أيضا الذين جعلوها إحدى متلازمات الحب وسهر الليالي للتفكير في العشق والهوى، مثل أغنية “فنجان شاي مع سيجارتين” للموسيقار محمد الموجي التي خلفت معادلة غريبة بين الشوق والتفكير والتدخين.
وتمادت الإعلانات القديمة كثيرا حتى جعلت التدخين قضية وطنية، فرفعت الشركات شعار “دخنوا سيجارتكم المصرية.. فهي منكم ولكم”، وبعضها ربط تعاطيها بالراحة النفسية تحت شعار “ترضيك.. لأنها ترضي من دخنوها قبلك”، أو “سدوا الفراغ الذي تشعرون به”.
وكانت الحفلات الموسيقية لكبار المطربين تعج بالمدخنين من الجنسين، وأقبلت عليها النساء أيضا كنوع من التحرر أو وسيلة لإظهار الوجاهة الاجتماعية والانتماء إلى طبقة الأثرياء، مع إطالة السيجارة بمبسم خشبي مرصع بالذهب أحيانا.
وقال جمال فرويز لـ”العرب”، إن تلك العادة ترتبط أكثر بغياب الثقافة والوعي ما يجعلها مرتبطة بالبيئات الفقيرة عن الغنية، خاصة السن الصغيرة التي تفتقر للحكمة في التعاطي مع الأزمات وحلها، فجمعية مكافحة التدخين كشفت في دراسة لها عن انتشار التدخين وسط طلاب المدارس الثانوية من الجنسين بنسبة 14.3 في المئة.
السجائر العامرة
يصل تقدير المصريين لسجائرهم إلى درجة حسابها ضمن معادلة العمل، فالحرفيون يحددون أتعابهم وفقا لها، والبعض يجعلها من أساسيات الحياة، فالدنيا لديهم بخير طالما تخفي جيوبهم ما يكفي لطعام الإفطار وعلبة السجائر العامرة.
وكانت أعقاب السجائر (بقاياها) في خمسينات القرن الماضي عملة بالمعنى الحقيقي عند قاطني الأحياء الفقيرة الملاصقة الذين كانوا يرسلون أبناءهم لجمعها من الطرقات ليعاد بيعها للمعدمين الذين لا يستطيعون شراءها من المحال التجارية.
وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتفاعا كبيرا في استثمارات الدخان بمصر حتى وصلت إلى مئة مصنع مع زراعة التبغ كمحصول تقليدي بجوار النيل في جنوب مصر، و”التنباك” في الوجه البحري، قبل أن يصدر قرار حكومي بمنع ذلك خوفا من تضرر المحاصيل الرئيسية.
ومع منع الزراعة، تأسست مصانع صغيرة غير شرعية لإعادة تدوير أعقاب السجائر ليعاد تفريغها في علب خشبية وبيعها بأسعار مخفّضة للجمهور بصرف النظر عن أخطارها الصحية وتركيزات القطران والنيكوتين التي تتجاوز النسب الطبيعية بعدة أضعاف.
وتعزو أستاذة علم الاجتماع سامية خضر المشكلة الرئيسية في التدخين إلى التقليد الأعمى، فغالبية المدخنين من صغار السن الذين استقوا العادة من أسرهم، أو قلدوا أعمالا درامية وسينمائية، وكانت السيجارة حاضرة بقوة خلالها، لا تفارق يد البطل في قراراته ومعاركه وانتصاراته.
وكشفت إحصائيات لمرصد صندوق مكافحة وعلاج الإدمان، الذي دأب منذ سنوات على تحليل التناول الدرامي لمشكلة التدخين وتعاطي المواد المخدرة في المواسم الرمضانية عن كثافة المشاهد التي تتضمن تلك العادة في المسلسلات التي تبلغ في المتوسط 7.6 في المئة من إجمالي أوقات العمل وهي نسبة مرتفعة.
وأضافت خضر لـ”العرب”، أن الحملات التحذيرية التي تم تدشينها لمواجهة التدخين غير متكاملة واكتفت بصور تحذيرية على علب السجائر من تسببها في الأورام السرطانية، فيما لا يلتفت مدخن السجائر إلى تلك الصور ويعرف خطورتها جيّدا وبعضهم يغطيها بأخرى مبهجة.
وجاءت جائحة كورونا لتزيد من معدلات التدخين في مصر بعدما أوجدت مناخا خصبا ومبررات لإرضائهم لتضاف إلى الميراث القديم المتوارث الذي يربط السجائر بقضاء مصالح المواطن، فإذا أردت أن تنجز فعليك بـ”الونجز” (نوع من السجائر).
وترتبط السجائر بطبائع المجتمع المصري وعاداته، فأصبحت وسيلة للمجاملة وفتح باب التعارف وتذويب الجليد في الأحاديث مع الغرباء، أو طريقة لتسهيل البعض من المعاملات والمصالح في الجهات الحكومية أو الحصول على الخدمات العامة التي تحكمها شبكة من الموظفين البيروقراطيين.
وفي طوابير الخبز الطويلة، يصبح إهداء سيجارة واحدة لعامل المخبز وسيلة لتلافي تضييع الوقت في الانتظار، وقد تفتح الطريق أمام صداقة بين الطرفين، تنتهي بوصول احتياجات المواطن اليومية إلى منزله لو كان قريبا.
وربما تقدّم حادثة قفز ممرض بأحد المستشفيات الخاصة من قطار متحرك قبل شهور لرفضه دفع غرامة تدخين لمحصل التذاكر، دليلا قويا على مدى مخاطرة المصريين من أجل “نيكوتين” سجائرهم، ففي النهاية ضحّى بحياته من أجل “سيجارته”.