المصارحة أولى خطوات مواجهة الأزمة في تونس

لا بد من تقديم عناوين واضحة للإصلاحات وأفقها والتركيز على فكرة التقشف وتفاصيلها وخاصة ما تعلق بالتخفيف التدريجي من الدعم الموجه للمواد الأساسية وفكرة تعويضه بتقديم منح للفئات الضعيفة والفقيرة.
الجمعة 2022/03/04
مصارحة التونسيين بحقيقة الوضع الحالي

ليس هناك شك في أن تونس تعيش على وقع أزمة اقتصادية حادة، ولا يمكن أن تحل بقرار أو موقف من شخص حتى لو كان رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يضع الآن كل الصلاحيات في يده. والسبب واضح، فهي أزمة معقدة يتداخل فيها الداخلي بالخارجي وتحتاج إلى وقت وأطراف مختلفة للمساعدة على طرق أبواب الحل.

ليس عيبا أن يظهر سعيد على شاشة التلفزيون الرسمي ويخاطب التونسيين بهدوء ووضوح ليقول لهم إننا في وضع صعب، ونحتاج إلى المكاشفة والمصارحة، وإن أياما صعبة تنتظرهم بسبب الأزمة القديمة للاقتصاد التونسي وتشابكه مع أزمة دولية معقدة ستقود الحرب في أوكرانيا إلى المزيد من تعميقها من خلال التسبب في رفع أسعار النفط والغاز.

هذه أزمة عالمية تطال الجميع بما في ذلك الدول الاقتصادية الثرية، وأفرغت أرفف التسوق في دول كبرى، والأمر سيزداد حدة مع أزمة القمح التي ستطال دول المغرب العربي وكل أفريقيا، ودولا كثيرة في آسيا، فجزء كبير من العالم يعيش من قمح أوكرانيا.

التونسيون يعرفون أنهم في أزمة، وأن الدولة لا تمتلك الأموال لإدارة الأزمة، والأفضل أن يسمعوا الأرقام والتفاصيل من رئيسهم بدل أن يسمعوها من أفواه خبراء واختصاصيين بأسلوب يسيطر عليه الجفاف والمبالغة والتخويف. ما يهم الناس أن تتولى الدولة مصارحتهم وفي نفس الوقت طمأنتهم بأنها قادرة على التحرك وتشركهم في التفكير من أجل الخروج من الأزمة.

حين تمر الدولة إلى فرض زيادات على مواد حيوية، أو تترك الحرية للشركات المنتجة كي تحدد الأسعار على مزاجها، ولا يتحدث أحد من المسؤولين من ذوي الثقة والوزن ليشرح ويطمئن ويضع أفقا لحدود مرحلة التقشف الصعبة، فلن يجد الناس من حل سوى الاعتماد على الإشاعات مصدرا للمعلومة التي تحدد موقفهم، أو يستمعون إلى ما تقوله المعارضة من تشكيك في قدرة سعيد على امتلاك حلول للأزمة، وأنه غير مهتم بها أصلا، وأن ما يعنيه هو خلق المناخ الذي يساعده على تحقيق برنامجه الهادف إلى قلب النظام السياسي الليبرالي إلى نظام مجالسي شعبوي.

الدولة المغرقة بالديون والتي لا تجد سبيلا للحصول على قروض جديدة لوضع أساس للإنقاذ لا بد أن تزيح الكثير من الأوهام من على عيون شعبها

الناس، الذين يدعمون سعيّد إلى الآن وبنسب عالية كما تثبته استطلاعات الرأي، يرفعون من سقف انتظاراتهم، ويرون أن رئيس الجمهورية يحمل في يده عصا سحرية، وأن المشكلة قد حلت لمجرد الإطاحة بمنظومة الفساد، مثلما يتكرر ذلك في كلمات سعيد الموجهة للتونسيين.

لا بد أن يحد الرئيس التونسي من سيطرة الخطاب السياسي على الكلمات التي يوجهها للتونسيين، ويستثمر ثقتهم العالية فيه ليقدم لهم صورة حقيقية عن وضع بلادهم، وضرورة إجراء إصلاحات شاملة وعاجلة وملحة لأسلوب الدولة في إدارة الملف الاقتصادي، وهو بهذا يخفف الضغط عنه ويلقيه على أولئك الذين يهاجمونه ويتمنون ألا يتقدم خطوة في أي إصلاحات ليقنعوا الناس بمصداقية تحليلهم واتهامهم للرئيس بالشعبوي الذي لا يمتلك برامج.

سيحتاج الأمر إلى شيئين رئيسيين؛ أولا تقديم صورة موجزة ولكن دقيقة على أسباب الأزمة، ودور الحكومات السابقة فيها بإغراق الميزانية بالإنفاق العبثي لاعتبارات سياسية وحزبية وشعبوية ودور الجميع فيها بما في ذلك اتحاد الشغل، وثانيا، تقديم عناوين واضحة للإصلاحات وأفقها والتركيز على فكرة التقشف وتفاصيلها وخاصة ما تعلق بالتخفيف التدريجي من الدعم الموجه للمواد الأساسية وفكرة تعويضه بتقديم منح قارة للفئات الضعيفة والفقيرة.

الدولة المغرقة بالديون والتي لا تجد سبيلا للحصول على قروض جديدة لوضع أساس للإنقاذ لا بد أن تزيح الكثير من الأوهام من على عيون شعبها، فهل يمكنها أن تستمر بإغراق ميزانية الدولة بتوظيف الآلاف من العاطلين عن العمل والاستمرار بترديد الشعارات أو التفكير في المصلحة الحزبية أو الشخصية وتأثير وقف عمليات التوظيف العشوائية على الحظوظ الانتخابية.

لماذا لا تقول حكومة نجلاء بودن للتونسيين إن صندوق النقد الدولي يرفض تسليم تونس أي قرض مستقبلي ما لم تقبل بتنفيذ إصلاحات من بينها وقف التوظيف في القطاع الحكومي لمدة لا تقل عن خمس سنوات، ووقف الزيادات في الرواتب وإثقال كاهل الدولة لترضية هذه الجهة أو تلك، وأنه قد حان الوقت لإصلاح المؤسسات الحكومية المترهلة التي تضم عشرات الآلاف من الموظفين الذين لا ينتجون شيئا ويطالبون باستمرار بزيادة الرواتب وفرضوا لأنفسهم مزايا وعلاوات لا تقدر عليها ميزانية الدولة.

أيا كانت شعبية الرئيس سعيّد، وأيا كان حماس الناس للانتقال السياسي الذي أراحهم من منظومة فاسدة وفاشلة ومرتبكة، فإنهم سيعودون بعد أشهر للتساؤل عن قدرة الرئيس وحكومته على تغيير واقعهم

ما الذي يجعل حكومة أولويتها الإنقاذ الاقتصادي العاجل تتخلى عن ذلك وتسحب من ميزانية الدولة الملايين من الدينارات وتنفقها للمحافظة على مؤسسات ينخرها الفساد والرشوة والمحسوبية وتتحكم بقرارها النقابات والمزايدات.. هذا فعلته حكومات ما بعد 2011 بهدف وحيد هو كسب ثقة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يريد أن تكون الإصلاحات بالمحافظة على الوضع الراهن، ودون المس من المزايا التي يتمتع بها الموظفون.

ماذا يجبر حكومة بودن على القبول بهذا الأمر، والأولى لها أن تقول للناس الحقيقة، وأنها لن تقبل الاستمرار في نهج حكومات حركة النهضة وحلفائها القائم على الاسترضاء وتجنب الصدام، وإنها إما أن تحدث التغيير اللازم الذي يحل الأزمة من جذورها وإما أن تتوجه للشعب ليحكم بينها وبين القوى العميقة الرافضة للإصلاح.

كما يمكن للحكومة التونسية الاستفادة من علاقتها الجيدة مع اتحاد الشغل لتنفيذ الإصلاحات، وأن تصارح الناس بمحتوى الحوار معه بعيدا عن الكلام العام لأجل أن يعرف الناس منْ من الطرفين على حق، ولماذا تستمر المنظمة النقابية في عرقلة الإصلاحات، وما هي مبرراتها وأهدافها.

من الخامس والعشرين من يوليو إلى الآن ركز سعيد خطابه على البعد السياسي، وأعتقد أن الناس قد فهموا موقفه جيدا، والكثيرين يقفون معه ضد المنظومة القديمة ويحملونها مسؤولية ما جرى لتونس وإن كانت التفسيرات مختلفة بين اتهامها بالفساد والارتهان للخارج وبين الاعتراف بأن هذه الطبقة السياسية لم تكن تمتلك الخبرات اللازمة لقيادة الدولة.

وتفاءل الكثيرون بحديث الرئيس سعيد عن استعادة الأموال المنهوبة وخاصة تلك التي تم تهريبها للخارج، وأنه يمكن استعادة بعضها عبر مصالحة مع رجال الأعمال. لكن الأمر ما يزال يراوح مكانه ليس لأن المصالحة غير ممكنة، لكن لأن الحقيقة غير ذلك تماما، فهذا المسار طويل ومعقد خاصة أن جزءا كبيرا منه مبني على الإشاعة ومحاولة إلقاء المسؤولية على جهة غائبة لتخفيف الثقل عن الحكومات التي فشلت بالسابق في إدارة الأزمة الاقتصادية، وقد يكون سعيد نفسه قد سقط في هذا الفخ، لأن المصالحة في صورتها الأولى تعني استعداء رجال الأعمال واتهامهم بالفساد وإلقاء كل الأزمات عليهم، وهي وليدة نظرة عدائية كامنة لدى بعض المعارضين ضد المستثمرين ورجال المال، وإن الاستمرار على هذا الخط سيدفعهم إلى سحب أموالهم وتعليق مشاريعهم والتوقف عن المساهمة في حل أزمة البطالة.

أيا كانت شعبية الرئيس سعيّد، وأيا كان حماس الناس للانتقال السياسي الذي أراحهم من منظومة فاسدة وفاشلة ومرتبكة، فإنهم سيعودون بعد أشهر للتساؤل عن قدرة الرئيس وحكومته على تغيير واقعهم، ولن تفيد معهم سردية الهجوم على المنظومة السابقة، تماما مثلما استثمرت الطبقة الحاكمة بعد الثورة الهجوم على فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فقد ملّ الناس من الاتكاء على الماضي لتبرير العجز وغياب الأفق في البحث عن الحلول.

9