المشكلة في الطبوبي أم هي أزمة هيكلية في اتحاد الشغل

يوم الثلاثاء، عقد أعضاء المكتب التنفيذي الخمسة المختلفون مع قيادة اتحاد الشغل مؤتمرا صحفيا ودعوا فيه إلى استقالة الأمين العام نورالدين الطبوبي. والمقصود بأن يبادر الطبوبي إلى إعلان استقالته بنفسه وليس الإقالة التي تحتاج إلى وقت وتغيير في التوازنات داخل المنظمة النقابية الأكبر في تونس، وهذا غير وارد الآن.
وتطور الأمر في الساعات الأخيرة ليصبح معركة معلنة على مواقع التواصل مع صدور بيانات من بعض النقابات الجهوية وانتقال النقاش إلى مواقع التواصل.
من المهم الإشارة منذ البداية إلى أن القادة الخمسة ليسوا معارضة نقابية. هم جزء من المنظومة التي قادت الطبوبي وجماعته إلى المكتب التنفيذي، وهي التي دفعت بالمؤتمر الاستثنائي بتعديل الفصل العشرين بما يتيح بالتمديد لعدد من عناصر المكتب التنفيذ لأكثر من دورتين نيابيتين. الخلاف ليس على المقاربات، ولكن على إدارة المنظمة من الداخل، إدارة الصراعات والتوازنات القطاعية والحزبية داخل الهياكل العليا، التي تضم فسيفساء كبيرة.
فلماذا ظهرت الخلافات الآن.
في الأزمات الحادة تظهر الخلافات. بعد ثورة 2011 لم تظهر هذه الخلافات لأن المنظمة النقابية كانت في الواجهة سياسيا وإعلاميا وحققت الكثير من المكاسب لمختلف القطاعات، وهي مكاسب فاقت التوقعات بكثير قياسا بما كان يحصل قبل ثورة 2011. حصلت زيادات كبيرة وتحصل الموظفون في بعض القطاعات على مزايا نوعية لم يكن أيّ نقابي يفكر فيها مجرد التفكير مثل تحصيل نسبة من الضرائب التي يجمعها موظف لفائدة الدولة ضمن وظيفته، أو منح سنوية مرتفعة في بلد يعاني أزمة سيولة منذ الثورة وإلى الآن.
◙ نقل الأزمة الداخلية إلى مواقع التواصل لن يحل مشكلة الاتحاد وما يجري تشويه للاتحاد وضرب لوحدته هو أمر يستفيد منه خصوم الاتحاد وخاصة الإسلاميين
المكاسب التي حققها الاتحاد، والذي كان منتسبوه يصفونه بالقول “الاتحاد أكبر قوة في البلاد”، غطت على الخلافات والصراعات القديمة بين مكونات القيادة من يسار (تفريعاته الكثيرة) وعاشوريين (نسبة إلى الأمين العام الأكثر شهرة الحبيب عاشور، وهو خط براغماتي) مع وجود مجموعات أخرى من قوميين وإسلاميين ومستقلين.
ولعب اتحاد الشغل دورا مؤثرا في عرقلة حكم الإسلاميين، وهو ما زاد من توحيد المجموعات السياسية المتجمعة داخل القيادة. وفي تلك الفترة تحولت المنظمات إلى لاعب رئيسي يناقش مختلف التفاصيل مع الحكومات المتعاقبة، وكانت حكومات ضعيفة وبلا خبرات.
وحدة المنافع والمكاسب تراجعت بشكل كبير بعد 25 يوليو 2021 بعد أن رفض الرئيس قيس سعيد القبول بالمعادلة القديمة، أي وجود منظمة نقابية بدور حزب سياسي ساق في المعارضة وأخرى في السلطة، حزب/نقابة يشرف على الحوار الوطني (2013) ويوجه سياسات الحكومات.
الاختبار الأول كان عرض اتحاد الشغل خارطة طريق مباشرة بعد 25 يوليو 2021 في خطوة بدت كما لو أنها نوع من الوصاية على المرحلة الجديدة في وقت كان الكثيرون يعتقدون أن الرئيس سعيد لا يقدر على الحكم بمفرده، وأنه يحتاج إلى مجموعات حزبية ونقابية ليحكم بواسطتها.
حين كفت السلطة يد الاتحاد عن اللعب في ملعب السياسة، وحدّت من تدخلاته وأوقفت الزيادات تحت الضغط انكفأت المنظمة إلى الداخل ونشطت الخلافات وتحميل المسؤولية للقيادة النقابية
لم يكن الفصل العشرون يثير الخلافات داخل القيادة النقابية، أيام الرخاء النضالي، لكن التفت المعارضون للطبوبي من داخل القيادة إلى الأخطاء وصاروا يطالبون بتقديم المؤتمر من 2027 إلى 2025، وتثور الآن معركة كلامية كبيرة حول تصريحات منسوبة إلى الطبوبي يتهم فيها البعض من القيادات النقابية ولاية صفاقس (جنوب شرق) بالمافيا، وهي جهة ذات ثقل كبير داخل المنظمة.
والمثير أن تصريحات الطبوبي تم تسجيلها على طريقة المافيا، أي دون علمه وبهدف توظيفه في معركة داخلية. ويقول نقابيون إن نقل الأزمة الداخلية إلى مواقع التواصل الاجتماعي لن تحل مشكلة الاتحاد، ولن تفضي إلى دفع الطبوبي لتقديم استقالته، وإن ما يجري تشويه للاتحاد وضرب لوحدته، وهو أمر تستفيد منه السلطة القائمة، وخصوم الاتحاد، وخاصة الإسلاميين.
لكن، إلى متى يتم إخفاء خلافات الاتحاد وصراعاته. على العكس، هذه فرصة مهمة لتحويل المنظمة النقابية إلى شأن عام حتى يعرف الناس مؤسسات بلادهم، تماما مثل الخلافات بين الأحزاب والاستقالات والانشقاقات. هذا يرفع عنها صورة المنظمة التي لا تتعرض للهزات، وفي نفس الوقت تتيح الفرصة لإصلاحها. الموظفون والعمال الذين يحوّلون اقتطاعات شهرية للمنظمة من حقهم أن يسمعوا أخبارها ويتابعوا الجدل داخلها وينتخبوا من يرونه أهلا في المرحلة القادمة.
إن عهد السرية قد ذهب بلا رجعة مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي كإعلام حديث وقريب من الناس. الأحزاب الإسلامية واليسارية خرجت خلافاتها وانشقاقاتها إلى العلن في سنوات ماضية، فما الذي يمنع من خروج أخبار الاتحاد وصراعاته الداخلية؟
◙ البعض يخاف على صورة الاتحاد وتماسكه، ولذلك يريد طي الخلاف سريعا، وهذا أمر خطأ، لأن الإصلاح يبدأ من كشف الحقائق، والوقوف على تفاصيل الصراعات
يخاف البعض على صورة الاتحاد وتماسكه، ولذلك يريد طي الخلاف سريعا، وهذا أمر خطأ، لأن الإصلاح يبدأ من كشف الحقائق، والوقوف على تفاصيل الصراعات حتى وإن كانت تافهة وتضرب تحت الحزام.
لا بد من الاعتراف أن حياد السلطة عن أزمة الاتحاد سيجعل هذه الأزمة تتسع وتتعمق. فعادة الأحزاب السرية حين تشعر بالخطر والاستهداف تتحد وتؤجل الخلافات. لكن الإهمال المتعمد من السلطة للاتحاد، وعدم استدعاء قيادته في أيّ مناسبة رسمية أو استقبال شخصي ضمن اتصال السلطة بمختلف المكونات الاجتماعية، عناصر غذت الخلافات. فهناك من يرى أن الإهمال نتيجة منطقية لسياسات الاتحاد المبنية على المغالبة والتصعيد، وعدم التفريق بين سلطة وأخرى، بين حكومات سابقة تقودها أياد مرتعشة وبين سلطة ليس في حسابها أن تناكف الاتحاد أو تقرّبه إليها.
وهناك بعد آخر للأزمة، وهو أن ثمة مجموعات من داخل الاتحاد تدعم قيس سعيد، ولا تريد التصعيد معه، وتريد أن تعطيه الوقت لتنفيذ أفكاره، وهي أفكار كان الاتحاد يرفع جلها كورقة ضغط على حكومات سابقة مثل الموقف من صندوق النقد الدولي وإصلاحاته، والتمسك بتثبيت الدعم الذي يقدم للفئات الضعيفة والمتوسط، وكذلك رفضه وجود شركات مناولة (شركات وسيطة توظف العمالة برواتب محدودة) في القطاعين العام والخاص.
والسؤال المهم الآن، كيف يمكن حل أزمة الاتحاد، بإقالة الطبوبي وتحميله مسؤولية الأزمة أم البحث عن مقاربة واقعية لتجاوز الخلافات خاصة أنها خلافات حول التفاصيل وليس حول المقاربات. ماذا لو قبل الطبوبي بالانسحاب قبل المؤتمر أو خلاله، هل يكفي أن يتسلم فلان أو علان المهمة وترتيب البيت الداخلي وفق مصلحة الفائزين الجدد.
بدل البحث عن تحميل المسؤولية للطبوبي يفترض أن تتحرك “المعارضة النقابية” من أجل دعم مسار الديمقراطية داخل مؤسسات الاتحاد وتفعيل المؤسسات لتعديل التوجه وعدم ربطه بالأجندة السياسية للمنظمة، وهي الأجندة التي حصرت الاتحاد في الزاوية وهزت من صورته.