المشاهد من المسرح إلى الملعب ومن الظلام إلى الشمس

جمهور كرة القدم أكثر قدرة على التفاعل والتأثير على "اللعب" من جمهور المسرح الغارق في الظلام.
الأحد 2018/07/01
جمهور المسرح وكرة القدم على الخشبة

ظهرت في الثمانينات من القرن الماضي في كاليفورنيا ما يسمى “بكاميرا التقبيل”، وهي كاميرا تبحث بشكل عشوائيّ عن شخصين  يجلسان بجانب بعضهما البعض على مدرجات التشجيع، وما إن تثبت عليهما حتى تظهر صورتهما على الشاشة الكبيرة في الملعب، ووسط صيحات الجمهور وتشجيعه، عليهما تبادل القبلات، هذه التقنية طوّرت للاستفادة من وقت إيقاف اللعب أثناء مباريات البايسبول، لتتحول بعده إلى عرف في المباريات، لا يقتصر فيها الأمر على التقبيلّ، بل أحيانا مجرد التقاط صورة مشجع عشوائيّ يثير الانتباه، ما يجعل الجمهور أو أحد أفراده يتحول إلى جزء من الاستعراض الرياضي، هذه المقاربة لا تحضر ضمن  المسرح التقليدي، حيث الجمهور غارق في الظلام كمتلصص منحرف، لا يجرؤ إلا على المشاهدة.

أبرز المقاربات التي تدرس العلاقة بين جمهور المسرح وجمهور كرة القدم، هي تلك التي قدمها المخرج والكاتب المسرحيّ الفرنسيّ محمد الخطيب، في عرض ستاديوم، الذي استضافته السنة الماضية خشبة مسرح الكولين في العاصمة الفرنسيّة، فالعرض الذي صدر مؤخرا نصّ النسخة الفرنسيّة منه، يكشف عن محاولة الخطيب لخلق نوع من الحوار بين الجمهور المسرحيّ الباريسيّ، وذاك الكرويّ المتشدد التابع لنادي ليون الفرنسي، إذ يسعى إلى إبراز الاختلافات والسياسات التي تحكم كل من الكتلتين البشريتين، وخصوصا مشجعي كرة القدم، والذين يتضحون حاليا أمامنا أكثر، إثر بداية مباريات كأس العالم، وخصوصا أن الكثير ين منهم يتركون أنشطتهم اليوميّة والمهنيّة، وينضمون إلى صفوف المشجعين في روسيا.

اللعب ضمن القواعد
اللعب ضمن القواعد

لا يقتصر هذا الاختلاف على مقاربة الخطيب، فالمقارنة البسيطة بين الجمهورين، تُبرز الفروق الجوهرية بينهما، فجمهور كرة القدم أكثر تفانيا ومرئية من جمهور المسرح الغارق في الظلام ضمن فضاء “اللعب”، فالمدرجات تمتلئ بالمشجعين الذين يمتد نشاطهم إلى خارجها، ضمن أنشطة تجمعهم وتنظم صفوفهم وتضبط أشكال التشجيع التي سيمارسونها، هم ذوو نظام ثقافي متكامل، والأهم أنهم قادرون على التعبير عن رأيهم بـ”اللعب” ومستواه، أثناء اللعب ذاته، بعكس جمهور المسرح التقليديّ، الذي يجلس في الظلام، صامتا في حال أعجبته المسرحيّة أو لم تعجبه، هو لا يستطيع أن ينقل انطباعاته مباشرة للمؤدي/ اللاعب أُثناء المشاهدة المباشرة، هذه الظاهرة السياسية نوعا ما حديثة في تاريخ المسرح، إذ سابقا وقبل مطلع القرن التاسع عشر كان جمهور المسرح حيويا، يَضربُ بالطماطم ويتأفف من الممثلين، بل ويخاطبهم ويعلق على أدائهم.

الجمهور كمؤدّ

يمتلك جمهور كرة القدم بسبب مرئيته سلطة رمزية، لسرقة وقت اللعب وشد الانتباه إليه، كأن يقوم أحدهم بطلب يد حبيبته، أو تأدية رقصة ما، أو إنشاد أغنية وطنية كحال جمهور فريق برشلونة في الدقيقة 17:14 من كل مباراة تشهدها المدينة، كما أن مرئيّة المشجعين لبعضهم، تجعلهم أكثر قدرة على التورط بالأفعال الجماعيّة، كالموجة البشريّة التي يقوم بها الجمهور وتنقل عدواها بين الجالسين، دون أن يؤثر ذلك على اللعب. في حين أن المسرح وظّف الجمهور في كثير من الأحيان بوصفه جزءا من اللعب، وخصوصا في فنون الأداء التي يتحول فيها الجمهور إلى محرك للأحداث، ومشارك فعّال في صناعة العرض، بحيث يكون تواطؤهم على اللعب مع المؤدي، هو ما يخلق قوانين “اللعبة”، كحالة العروض التي تقدمها ماريانا أبراموفيتش والتي تدعو الجمهور إلى المشاركة بـ”اللعب” بجسدها، بوصفه محرك سير الأحداث.

رجال الشرطة كمؤدين أمام الجمهور
رجال الشرطة كمؤدين أمام الجمهور

سياسات التخريب

يتمتع جمهور الملعب بالقدرة على التخريب سواء لأسباب سياسيّة أو مجرد الشغب، ما قد يصل حد إيقاف اللعب، أو تعطيل القواعد، ما يدفع اللاعبين إلى معالجة “الخطأ” والعودة إلى اللعبة إثر تدخل فردي من أحد المشجعين مثلا، وأحيانا، قد يحرم “الجمهور” من حضور مباراة ما، كعقاب على “التخريب”، كما حدث في ألمانيا حيث منع 25 ألف مشجع من حضور مباراة ناديهم بروسيا دورتموند، على النقيض، وظفت أِشكال الأداء المعاصرة التخريب كوسيلة لاستعراض الهيمنة السياسية، كحالة الفنان الروسي بيوتور بافلنسكي، الذي يجعل من رجال السلطة مؤدين يحاولون إنقاذ حياته، عبر خلق شروط وألعاب خطرة تستقطب الجمهور، الذي يشاهد الشرطة وهي “تؤدّي” دورها السيادي، كما فعل حين قطع شحمة أذنه وهو جالس على جدار مستشفى الأمراض العقلية في موسكو.

تتيح الأنشطة الرياضية اللعب من دون جمهور، فحضور المشاهدين ليس ضروريا لإتمام الأداء وحسم النتائج، كحالة المباراة التي شهدها كامب نو في برشلونة، حيث لعب نادي برشلونة ضد نادي لاس بالماس في ملعب خال، وذلك احتجاجا على تصرفات الحكومة الإسبانيّة ضد محاولة الانفصال الكتالونيّة، وهذا ما لا يمكن أن يحصل في المسرح أو فنون الأداء، إذ لا بد من مشاهد -إلا في الحالات العلاجيّة التي يوظف فيها الأداء العلني- ليتحول الأداء إلى “حدث” تتم “مُشاهدته”، دون ذلك، نحن أمام فيديو أرت في حال تم تصوير الأداء أو حكاية في حال تمت الكتابة عنه وتصويره.

خصوصية “الجمهور” في المسرح ترتبط بطبيعة الفن المسرحيّ والفنون الاستعراضية، بوصفها أداء قائما على أن يُشاهد وهو يُؤدي، حسب تعبير ريتشارد شيشنر، كون الأداء الفنيّ والمسرحيّ، لا يقتصر فقط على اللعب ضمن القواعد، بل على محاكّة أو انتقاد مفاهيم ثقافية وفنيّة لا بدّ للجمهور من التفاعل معها، في حين أن الأداء الرياضي وبالمعنى البسيط، يرتبط بالمهارة الفردية للاعبين، والتزامهم بالقواعد لتحقيق الفوز أو الخسارة الشخصيين، بعكس الأداء المسرحي والفنيّ، حيث لا رابح أو خاسر، والقواعد موضوعة إما لتُرسّخ أو تكسر في سبيل التأثير  بالجمهور.

13