المسرح يبتلع الرواية

الأحد 2016/07/03

تُعدّ الثنائية الزمنية التي تكشف عن التعارض، أو التوافق بين زمن الحكاية وزمن السرد أهم ما يميز السرد الروائي من حيث مستويات إعداده الجمالي، عن غيره من أنواع السرد الأخرى، حيث تكشف العلاقات بين الديمومة النسبية في الحكاية، وديمومة السرد (أي طولـه) عن مجموعة من الأشكال، أو التقنيات السردية في الرواية، والتي تقودنا إلى استقصاء الإيقاع الزمني للسرد، والتغيرات التي تحدث على نسقه من سرعة، أو تباطؤ.

يرى بعض الدارسين أن ملاحظة الإيقاع الزمني ممكنة دائما نظرا لاختلاف مقاطع السرد وتباينها، فهذا الاختلاف يترك لدى القارئ دائما انطباعا تقريبيا عن السرعة الزمنية، أو التباطؤ الزمني. من بين هذه التقنيات السردية تقنية “المشهد”، وفيها ينحو السارد منحى العرض الدرامي في سرد الحدث من خلال استعمال الحوار وجزئيات الحركة، بعكس ما يفعله في الخلاصة، فينجم عنه تضخم نصي يبرز الحدث في لحظات وقوعه المحددة، الكثيفة، المشحونة، ويعطي القارئ إحساسا بالمشاركة الحادة فيه، وكأنه فعل مسرحي تتحاور فيه الشخصيات وهي تتحرك، وتمشي، وتفكر، وتندهش، وتتأمل. و تهدف هذه التقنية إلى تعطيل زمن السرد أو توقيفه مدة بحسب تودوروف.

من النادر جدا أن نجد عملا روائيا حديثا لا يستخدم فيه الروائي هذه التقنية السردية، التي تشكّل محاولة لإقصاء السارد عن مسرح الحدث أوتحييده وتهميشه، أو إخفائه وراء الشخصيات لتبدو “كأنها تعبّر بتلقائية عن نفسها على مسرح الأحداث تماما مثل المسرحية”، كما يقول بيرسي لبوك.

ويعتقد بعض النقاد أن للمشاهد الدرامية دورا حاسما في تطور الأحداث، وفي الكشف عن الطبائع النفسية والاجتماعية للشخصيات، ولذلك تعوّل عليها الروايات كثيرا، وتستخدمها بوفرة لبث الحركة والتلقائية في السرد، وكذلك لتقوية أثر الواقع فيه. وقد قام أحد النقاد العرب بإحصاء المشاهد في بعض روايات نجيب محفوظ، مثل “القاهرة الجديدة”، فوجد فيها 33 مشهدا حواريا متنوعا (حوار أفقي ورأسي وواصف وحوار داخلي)، كما بلغت المشاهد الحوارية في الثلاثية مئة وأربعة وثمانين مشهدا حواريا متنوعا.

وحظيت تقنية “المشهد” باهتمام دارسين عرب آخرين، منهم وليد خشاب في دراسته “عندما تلجأ الرواية للمسرحية”، وبطرس الحلاق في دراسته “الذهنية علاقة لغوية: دراسة فى عودة الروح لتوفيق الحكيم”، وصبحة علقم في بحثها الأكاديمي “تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية: الرواية الدرامية أنموذجا”.

أفرط بعض الروائيين في تضخيم هذه التقنية، ضمن محاولات التجريب الروائي، أو تفعيلا لخاصية حضور الشخصيات والأصوات في النص، إلى درجة ابتلاع النص كله، أو تحويله إلى جنس هجين، أو عمل درامي، أطلق عليه مصطلح “المسرواية”، وكأنه أخذ بنصيحة هنري جيمس للروائيين: “مسرحوا… مسرحوا.. “، بمعنى اكتبوا مشاهد، لأنه، حسب رأيه (جيمس) لا يمكن تصور رواية تقتصر على السرد البانورامي، في حين أننا نستطيع أن ندع مجالا للشخصيات لتروي نفسها بنفسها. مثال على ذلك نص “بنك القلق” لتوفيق الحكيم، “قبعتان ورجل واحد” لمؤنس الرزاز، “1980 وأنت طالع″ لمحمود جمال الحديني، “لقاء مع ملك الموت” ليوسف جاد الحق، و”صندوق زجاجي” لكريم الهزاع.

وسّع الرزاز في نصه السرد المشهدي ليطال جسده كاملا، باستثناء الاستهلال. وقد أثار أيام نشره إشكالية التجنيس مرة أخرى، فعدّه الرزّاز نفسه رواية، وقرأه بعض النقاد بوصفه “مسرواية”، في حين نعته نقاد آخرون بأنه “مسرحية ذهنية”! أما جاد الحق فقد عدّ نصه، في المقدمة التي كتبها له، بأنه ليس جنسا روائيا خالصا تنطبق عليه مواصفات النص الروائي، حسب التعريف التقني المحدد والمتعارف عليه لهذا الجنس من الأدب، ذلك أن الحوار المكثّف والمباشر بين الشخصيتين المحوريّتين في النص هو الغالب على الحيّز الأعظم من صفحاته، بحيث يكاد يطغى الحوار على السرد الذي هو، في العادة، العنصر الأكثر بدوّا في الرواية.

كاتب من العراق

11