المسرح والديمقراطية

الأحد 2016/06/05

الخاصية التعددية والحوارية للمسرح واحدة من أبرز مظاهره التي تجعل منه فنا ديمقراطيا بامتياز، حتى لو تقنّع بأقنعة تاريخية أو فانتازية. لكن ديمقراطية المسرح لا تكمن في تركيبه وأسلوبه فقط، بل في توجهه وأنماط علاقاته الإنتاجه وتلقيه أيضا. فهو بطبيعته يقوم على الاختلاف والشك والرفض والمقاومة والتحدي، وتعرية الاستبداد والطغيان، والدفاع عن الحرية والتعددية، ولذلك فإنه لا يزدهر إلاّ في مجتمع نضج وعيه، وأصبح قادرا على التفكير والتمييز، ومساءلة نفسه ومواجهة ما يحيط به بمعزل عن التابوات‏.‏ ويكفي أن ننظر إلى تاريخ المسرح في اليونان القديمة لنجد أن هذا الفن ازدهر مع ظهور الديمقراطية، وازدهار الفلسفة، وقد ارتبطت إحداهما بالأخرى بصلة قوية‏.‏ وتراجع وتهافت في العصور الوسطى حينما ساد الحكم الثيوقراطي واستعبد الناس،‏ وصادر الرأي‏، وحاصر الإبداع‏، ثم عاد للازدهار في العصور الحديثة التي استعاد فيها العقل مكانه‏، وانتصرت الديمقراطية‏، وانفصلت الدولة عن الدين‏، وسقطت الإمبراطوريات المقدسة‏، وأصبحت حرية التفكير‏‏ والتعبير‏‏ والاعتقاد مكفولة للجميع.‏

إن التأكيد على الخاصية الديمقراطية للمسرح، في إطار التنظير أو الكتابة عن المسرح بشكل عام في الثقافة العربية، ليس وليد التحولات الديمقراطية المحدودة التي شهدها العالم العربي، بل يعود إلى بضعة عقود سابقة، ففي الأربعينات كان الفنان المصري زكي طليمات في طليعة المسرحيين الذين شغلتهم هذه الخاصية على مستوى التنظير، فكتب مقالا بعنوان “المسرح والديمقراطية”، أكد فيه على أن المسرح فن أصيل في ديمقراطيته وسلاح خطير يحطم قيوده وديمقراطية التركيب والتعاون. واستشهد بدور المسرح في التمهيد للثورة الفرنسية، خاصة بومارشيه الذي كانت مسرحياته دعوة صريحة إلى المطالبة بحقوق الأفراد، ونداء مقنعا إلى الشعب الفرنسي أن يهبّ للمطالبة بالحرية والمساواة.

تلا طليمات في السنوات اللاحقة عدد من الكتاب والنقاد المسرحيين العرب في التأكيد على الخاصية الديمقراطية للمسرح، وانزعاج السلطات الحاكمة من جرأته في الكشف عن مفاسدها واستبدادها وأساليبها القمعية، منهم سعدالله ونوس، الفريد فرج، يوسف العاني، سامي خشبة، فؤاد دوارة، أحمد سخسوخ، وصاحب هذه السطور، بل إن ونوس لم يكتفِ بالوقوف على هذه القضية في سياق دراسته عن الرائد المسرحي أبي خليل القباني، التي استنتج فيها أن الميزة التحررية، أو الخاصية الديمقراطية التي يحملها المسرح، كانت أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الفئات الظلامية المتحالفة مع الحكام العثمانيين المستبدين إلى كتم صوته وهو لما يزل نبتة صغيرة يحاول الرواد أن ينمّوها في أرض الشام، بل حاول في مجموعة من نصوصه المسرحية أن يحقق فكرة إنشاء مسرح ديمقراطي عربي على الصعيدين الدرامي والدلالي، من خلال إدخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية، وإشباع ما أسماه بـ”الجوع إلى الحوار”.

وفيما يتعلق بالجماعات المسرحية العربية، فإن جماعة المسرح الاحتفالي في المغرب هي الجماعة الوحيدة التي أكدت في بياناتها التنظيرية على ديمقراطية المسرح، ففي ضوء الفعل التأسيسي الذي انتدبت نفسها لإنجازه جاءت لتحقيق جملة من الأهداف منها: جعل المسرح فعلا محرّضا على تحقيق الحرية الاجتماعية، والدعوة إلى تحقيق مجتمع ديمقراطي يقوم على التساكن والتعايش والحوار ومشروعية التعدد والاختلاف.

وإلى جانب التنظير لديمقراطية الخطاب المسرحي، فقد ظهرت العشرات من المسرحيات العربية منذ خمسينات القرن الماضي، التي تكشف قراءة بعضها قراءة دلالية عن محنة الديمقراطية أو إشكالية غياب الحرية والديمقراطية من خلال تجسيد بشاعة أنظمة الحكم الدكتاتورية والبوليسية.

كاتب من العراق

11