المسرح الوطني التونسي يسلم مفاتيحه إلى مدير جديد ونفس جديد

بعد شغور لعامين، عينت وزارة الثقافة مديرا جديدا للمسرح الوطني التونسي فبعثت الأمل من جديد في صفوف المهنيين والعاملين في الفن المسرحي، في إحداث تغييرات طال انتظارها في المؤسسة، خاصة أن معز مرابط المدير الجديد هو ابن المسرح وعالم بهناته ومطّلع على مطالب المسرحيين.
المكان: مقر المسرح الوطني التونسي، الكائن ببطحاء الحلفاوين، في حي باب سويقة الشهير، والنابض بالحياة والاحتفالات في عمق العاصمة التونسية.
الزمان: التاسع من فبراير الجاري أي بعد أكثر من عامين من شغور المنصب الذي كان يشغله الفنان المسرحي المعروف فاضل الجعايبي.. وفي ظل أزمات خانقة ممكن أن تنعش فن المسرح وتغذيه.
الحدث: موكب تنصيب المدير العام الجديد لمؤسسة المسرح الوطني الفنان والباحث الأكاديمي معز مرابط.
بدت مراسم الاستلام والتسليم مختصرة على حضور صفوة منتقاة من الإداريين والمسؤولين المسيرين لهذه المؤسسة العريقة والفاعلة في تاريخ البلاد، بالإضافة إلى نخبة محدودة العدد من الفنانين المخضرمين وبعض الإعلاميين والنقاد.
كل شيء ينمّ عن هيبة استثنائية يحظى بها المسرح في بلد لم تلهه مشاغله واستحقاقاته الاقتصادية والسياسية والدستورية عن إيلاء هذا الفن الحيوي المكانة التي هو عليها محليا، عربيا، وحتى دوليا.
ما ينتظر إدارة المسرح هو عدم تناسي أحد من العاملين بالفن المسرحي خصوصا على مستوى الكتابة الإبداعية
أخيرا، تصاعد “الدخان الأبيض” من أروقة وزارة الثقافة والدوائر المسؤولة لتعلن بعد انتظار طويل عن الاسم الذي سوف يقود دفة الفن المسرحي بالأعداد الهائلة التي تعمل فيه بطرق مباشرة أو غير مباشرة، بالإضافة إلى ما يمثله من سمعة وطنية باتت ترتقي إلى مصاف ما يُعرف بـ”هيبة الدولة”.
معز مرابط، الفنان والأكاديمي الذي يتدفق حماسا وحيوية لكلّ من يعرفه، يضطلع الآن بمسؤولية جسيمة في تحمل إرث ثقيل استلمه من أستاذه بالأمس فاضل الجعايبي، والذي قد يختلف معه بعض مسرحيي تونس، لكنهم لا يختلفون عنه كواحد من العلامات الفارقة في المسرح والثقافة التونسية المعاصرة.
المهم أن معز مرابط لم يأت بفرمان أو بقرار علوي إلى مبنى قصر خزندار الذي جعل منه الفنان محمد إدريس قصرا للمسرح، وإنما على إثر مجموعة ترشيحات واختبارات ونجاحات مكّنته من الإمساك بملفات هذا القطاع الحساس، بدراية وكفاءة عاليتين وبيدين غير مرتعشتين.
المسرح الوطني التونسي الذي يحتفل هذا العام بالذكرى الأربعين لتأسيسه على يد الراحل المنصف السويسي وثلة من رفاقه في عهد الوزير البشير بن سلامة، كبرت مهماته وتوسّعت، إذ أصبح يشرف على مراكز الفنون الدرامية والركحية بالتنسيق مع سلطة الإشراف وهو أمر “يجعل من المسؤولية أكبر والرهان أشمل من أجل مسرح تونسي أكثر تميزا وأقرب إلى الناس إبداعا وإنتاجا وتوزيعا”، كما جاء في كلمة مديره الجديد في حفل التنصيب.
المسرح الوطني التونسي، إذن، أصبح “مؤسسة مرجعية” كما وصفه مديره السابق فاضل الجعايبي، في معرض إثنائه على مديره الجديد، تلميذه السابق الذي قال عنه بأن له إمكانيات ومؤهلات معرفية وفكرية تضمن حسن تسيير هذه المؤسسة العريقة.
ويُفهم من هذا السياق، أن إدارة المسرح في تونس وغيرها، لم تعد تلك الامتيازات الإدارية التي تمنح لشخص حق التصرف في مخصصات مالية من موارد الدولة، وإنما هي جزء من إدارة البلاد ضمن خطة إستراتيجية محكمة، وليست حالات اعتباطية ومزاجية تتحكم فيها المصالح الضيقة.
كما أن الصورة النمطية السائدة عربيا لمؤسسة المسرح الوطني ـ أو القومي ـ كما هو الحال في مصر وسوريا، من حيث الرتابة الإدارية والمحسوبية في توزيع الغنائم وتقاسمها، ينبغي أن تزول إلى غير رجعة، إن أردنا النهوض بهذا القطاع، ومجاراة التجارب الناجحة في العالم.
ما يعقد الآمال ويثير التفاؤل لأبناء العائلة المسرحية في تونس هو أن مجيء معز مرابط، إلى إدارة المسرح الوطني، لم يكن مسقطا، ولا بقرار فردي وإن كان من وزارة الإشراف، وإنما وفق إجماع على أن الرجل ذا الكفاءة الأكاديمية العالية إلى جانب موهبته الفنية الخاصة.
والمعروف عن مرابط، ابتعاده عن الشللية الفنية والمهنية، وإن كان لا ينكر ـ كما جميع بني جيله من المسرحيين ـ فضل أستاذه وسلفه فاضل الجعايبي، في رعاية مؤهلاته، وهو ما يبرز دور ترابط الأجيال وأهميته في الحفاظ على تلك الألمعية الإبداعية التي صبغت المسرح التونسي وجعلته يحتل الريادة عربيا.
معز مرابط، الذي اشتغل كممثل تحت إدارة فاضل الجعايبي، في رائعته “عشاق المقهى المهجور”، يعود اليوم لنفض الغبار عن المسرح الوطني التونسي الذي كاد يكون مهجورا، لولا حيوية الإدارة التونسية في الحفاظ على سير النشاطات وتسييرها ماليا طيلة أكثر من سنتين.. وهو ما يجعل التونسيين يفخرون بشيء اسمه “دولة المؤسسات” على الرغم من بعض الهنات.
ما ينتظر إدارة المسرح الوطني اليوم، هو عدم نسيان أو تناسي أحد من العاملين والمنشغلين بالفن المسرحي، خصوصا على مستوى الكتابة الإبداعية، وذلك إغناء لأهم رافد من روافد الإبداع المسرحي في عصر يعود فيه هذا الفن الآن إلى جذوره الأولى وهي الكتابة النصية، وذلك بعد استنفاد المحسنات والثرثرة البصرية وثبات عدم قدرة المسرح على اللحاق بالسينما في هذا المجال.
كما يأمل الجميع العمل فعلا، لا قولا، في توسيع دائرة الشركاء والتنشيط واستقطاب أصناف جديدة من المشاهدين إلى جانب الشراكات الوطنية والدولية ودعم موقع المؤسسة وإشعاعها وكذلك دعم برامج البحوث والدراسات والنشر والتوثيق، وهو أمر لا يصعب على أكاديمي وباحث من أبناء “بيت الحكمة”، ومشهود له بالانفتاح حتى على من يخالفه الأمزجة والأهواء.