المسرح التونسي أكبر من مجرد دورة سنوية

مهلا.. إن أيام قرطاج المسرحية التي انطلقت في دورتها الحادية والعشرين من 7 إلى 15 ديسمبر الجاري، في مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، وتستضيف أكثر من 100 عرض مسرحي قادم من بلدان عديدة، ربعها من تونس، إلى جانب فعاليات وندوات تخصصية مختلفة، لا تعني مرور 36 عاما، فقط، من عمر المسرح التونسي الذي أسّس مهرجانه العربي والأفريقي سنة 1983، على أيادي رواد وأكفاء.
هذا الاحتفاء التأسيسي، جاء، وعلى الرغم من إرادة وحماسة رجالاته، متأخرا جدا، بالمقارنة مع استيطان وانتشار الفن الرابع في ربوع هذه البلاد التي تعدّ عاصمة المسرح العربي، بلا منازع، في حين أن مهرجان السينما، مثلا، قد تأسّس عام 1966.
وأهم من يظن من متابعي مهرجان قرطاج المسرحي، في الخارج على وجه الخصوص، أنه يعكس حقيقة وواقع الفن الرابع، والمنشغلين به في هذه البلاد التي تتنفّس المسرح شغفا ومزاجا وسلوكا، وإيقاعا يوميا، فكأنما هو طريقة حياة تشبه موسيقى الفالس في النمسا أو السالسا في منطقة البحر الكاريبي.
المسرح التونسي يشبه شعر ما قبل سوق عكاظ في الجزيرة العربية: عروض وأعمال وإنجازات كتلك القصائد الضاربة في القدم، والموغلة في الإنسان، ولكن، يُكتب، فقط، بعضها بماء الذهب، ويُعلّق على باب الكعبة، حسب ذائقة النابغة الذبياني، وأمثاله من النقاد والمشرفين (غير التشريفيين) من أولئك الذين كانت تقام لهم القباب والخيام لإبداء الرأي والمفاضلة داخل تلك السوق وأهوائها التجارية والسياسية والعشائرية.. وتُطوى البقية طي التجاهل والنسيان.
ليس الأمر تحاملا على مهرجان اشتد عوده، ويفخر به كل أبناء “الآن وهنا” في تونس، والعالمين العربي والأفريقي، فمديره الفنان حاتم دربال، المشهود له بالمهنية والنزاهة، والحفاظ على المسافة واحدة بين جميع أفراد العائلة المسرحية في تونس، يدرك أن الضغوط ومحاولات الإملاء كثيرة داخل وزارة إشراف تتجاذبها أهواء كثيرة، والحق على من تأخر ولم يطرق الأبواب، وسط حمى الرغبة في المشاركة وتقاسم الغنيمة.. وللأسف الشديد.
ينبغي القول إن المهرجانات في تونس “تكايا وزوايا خيرية” على الطريقة العثمانية، فمن حضر، حضر نصيبه، ومن غاب، فـ"عليه العوض ومنه العوض" أي "ذراعك يا علاّف" على الطريقة التونسية، فلا نصيب لخجول أو لطيف أو حتى فنان يفكر في فكره قبل جيبه.
أيام قرطاج المسرحية لا تعني مرور 36 عاما، فقط، من عمر المسرح التونسي الذي أسس مهرجانه العربي والأفريقي سنة 1983
"اغتنم قبل فوات الأوان".. هل صار هذا عنوان مهرجاناتنا أيها المتباهون في بلاد تقتطع من ضرائب وأموال شعبها لإقامة المهرجانات؟ هل نقيم في كل مرة حفلا لنهب أموال العموم باسم إثراء الثقافة الوطنية المتخفية تحت تصفية الحسابات وإبعاد كل ما من شأنه أن يقرّبنا للثقافة والإبداع؟
الثقافة الوطنية التي أسّس لها الزعيم الحبيب بورقيبة، وشلة من رفقائه النزيهين، رغم نرجسيته وتضخم أناه، كان يراد من خلالها الفخر بـ"بترول تونس الثقافي" بين الشعوب، صارت سيولة مالية بين أيادي غير المؤتمنين على هذه الرسالة، وأمست ذريعة للتكسّب، وإقصاء من يجب إقصاؤه ممّن تسوّل له نفسه الوفاء للدولة الوطنية.
سنحتفل بأيام قرطاج المسرحية، رغم "الجو الماطر والإعصار"، إيمانا منا بأن المولود الذي نشأ عام 1983 على أيادي المنصف السويسي، المنجي بن إبراهيم ووزير الثقافة البشير بن سلامة، وآخرين، قد دخل قيده السجل رغم إيماننا أن هذا الشعب المصاب بلوثة الاحتفالية والنزوع الفرجوي، منذ قدماء الأمازيغ والرومان والقرطاجيين والوندال، وعرف أضخم المدرجات التي تتسّع للآلاف، كان عليه، تعسفا، أن ينتظر سنة 1983 ليشهد نشوء أول مهرجان مسرحي ذي بعد محلي وعربي وأفريقي؟
الحقيقة أنه جاء متأخرا بالمقارنة مع تاريخ المسرح القديم، وحتى الحديث في البلاد، والذي بدأ مع بدايات القرن الماضي، مستقبلا ومستقطبا فرقا وافدة، ومحتضنا لمدارس لم تعرفها الكثير من بلدان الغرب الأوروبي.
انظر إلى قومك أيها التونسي، كم كانوا سبّاقين، ولكن سبق بعضهم الجشع والطمع، وتسلط عليهم حب المال على حساب الأفكار التي لا نملك غيرها.. تخلّ قليلا عن جشعك إنك تُساهم في صنع شعب عظيم، أيها المسرحي الذي لا يمتلك إلاّ فضاء خاليا من الزيغ، ومؤثّثا بالحقيقة.
أيام قرطاج المسرحية، ليست إلاّ “سنّة” وذريعة للقول إنك صانع معجزة ثقافية، لا تهزمها أسواق البورصة، ولا تصل لأحفادك منتهية الصلاحية.. بل وجبة تؤكل باردة، مثل أجمل ما يمكن عليه “الثأر الثقافي” أيها الذي نام طويلا، واستيقظ على حين صدمات ثقافية وسياسية.
كل ما في أيام قرطاج المسرحية، هذا العام، مُبهج، ويجعلنا نتصالح مع العصر: ندوات فكرية يقيمها ويشرف عليها أمهر الأكفاء، وأكثرهم إخلاصا لتونس: لا أحد يشكّك في قدرات الباحث المتمرس عبدالحليم المسعودي، وترويضه للخطاب المسرحي ضمن مسارات لا يتقنها إلاّ العارفون والناطقون باسم ما يجب أن يكون.
لا صوت يعلو فوق صوت قرطاج، رسالة العالم إلى العالم والسماء، دون زيف، ودون تمثيل، ولكن عبر التمثيل كأجمل ما يمثله التمثيل في بعده التطهيري منذ أجدادنا الإغريق.. عفوا هل قلت الإغريق في بلاد سبقت سوفوكلس، بالسؤال: هل تستحق الحياة العيش دون أسئلة؟
أرسطو أجاب على هذا التساؤل، أشاد بأول جمهورية في تاريخ الإنسانية، كموطن للجدل، وهل يستقيم العيش دون جدل، قال أرسطو “قرطاج عظيمة فاحذروها وقدّروها.. إن في هذه البلاد قد ولد الجدل”.
أيام قرطاج المسرحية، تربينا على إيقاعك، عاشرنا مؤسّسين ومشرفين، وخاصمنا بائعي تذاكر، ودخلنا إلى صالاتك متسلّلين.. نحن سدنتك يا قرطاج، وحراس معبدك.. المجد لك رغم كيد الكائدين.. عاش المسرح الذي لا يشبه إلاّ الحياة، رغم جميع مُدّعيه.