المسؤولون المتهاونون في تونس: يوم الحساب قد أتى

المحاسبة لا تتعلق فقط بمن يسرق أو يتحايل، هناك وجه مهم منها يتعلق بمن يفشل في تحمل المسؤولية لتقصير أو استهانة.
الأحد 2024/07/07
مراقبة ثم محاسبة للمقصرين

يعمل الرئيس التونسي قيس سعيد بشكل يومي على متابعة تفاصيل الحياة اليومية للناس، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل عمل البلديات وموضوع المياه والكهرباء والخدمات الصحية.

صحيح أن إمكانيات تونس محدودة، وهي لا تمتلك التمويلات اللازمة لإحداث نقلة كبيرة في هذه الخدمات، لكن الرئيس سعيد يعتقد أن أزمة الخدمات في جزء كبير منها تتعلق بتقصير المسؤولين وهيمنة البيروقراطية على قرار الإدارة ليتحول الأمر إلى ما يشبه الدوامة التي تلف حياة الناس فلا يعرفون سبل الخروج منها، ولا تجد الدولة مدخلا واضحا لها.

ويأخذ الشأن البلدي حيزا من الاهتمام في حياة التونسيين، وهو المجال الأول للشكاوى من تقصير الدولة في الاهتمام بهم. وخلال سنوات طويلة ظلت المدن التونسية تعاني من تراجع الخدمات البلدية الأساسية، بما فيها التنظيف البسيط للشوارع والأحياء ورفع القمامة.

يمكن أن تذهب إلى حي راق أو شعبي في العاصمة أو المدن الكبرى وترى المستوى المتراجع للطرقات أو حجم الأتربة المتراكمة التي تشهد على أن مكنسة البلديات لم تمر من هناك لأشهر. الأمر لا علاقة له بإمكانيات الدولة ولا بخيارات سياسية. كل ما في الأمر أن ثقافة التقصير والتهاون باتت عامة.

يمكن أن يمر مسؤول بلدي، في أي مدينة صغيرة أو كبيرة، على تكدس بقايا أنشطة البناء أو تكدس للقمامة في قلب المدينة أو في جانب قصي منها أو على طريق رئيسي ولا يلتفت إليها وكأنها لا تعنيه ولا تخصه لأنه يعرف أن الرقابة ضعيفة وأن المسؤول الذي فوقه مثله تماما لا يهتم، فمم سيخاف.

◙ مهمة المسؤول أن ينظم ما هو قائم بشكل عادل فلا يمكن أن يتم قطع المياه أو الكهرباء بشكل متكرر على مناطق بعيدة في حين تكون الانقطاعات محدودة جدا في المدن الكبرى

تشكلت خلال عقود ثقافة المحسوبية والرشوة التي تجعل أيا كان قريبا من مسؤول بلدي أو صديقا له أو معرفة من قريب أو بعيد يتصرف كما لو أن البلد ملك له؛ إذ يضع فواضل البناء حيث يريد من دون أن يقدر أحد على الاحتجاج عليه وإذا احتج فإنه يهدده بعلاقاته.

يكفي أن تأتي شاحنة في جنح الظلام لتكب الفضلات وتختفي ليتصالح الناس مع الوضع ويكتفون بالشكوى وسب الدولة والمحسوبية، خاصة حين تتكاسل البلديات عن رفع بقايا الأكل والخضروات المتعفنة وجلود الأضاحي والبقايا التي يلقي بها أصحاب المطاعم وباعة الدجاج وأكداس بقايا السجائر التي يلقي بها أصحاب المقاهي في أي مكان بلا حسيب ولا رقيب. يضاف إلى ذلك ما يقوم به "البرباشة" الذين يقلبون حاويات الزبالة رأسا على عقب لجمع قوارير البلاستيك وبقايا الخبز لبيعه.

وطالما لا يوجد تحرك حازم من الدولة فلن يتغير شيء، وحين قام الرئيس سعيد بزيارة أحد مقار بلدية تونس العاصمة، وهي أكبر بلدية وتتبعها الكثير من الأحياء الشعبية التي تعاني من صنوف شتى من الفوضى، وحين شاهد الناس اللقاء على التلفزيون الرسمي وفي موقع الرئاسة على فيسبوك وسمعوا الخطاب القوي تحركت البلديات في اتجاهات مختلفة لرفع القمامة وإزالة أكداس الأتربة من المواقع الرئيسية المكشوفة.

لكن ثقافة الفساد والبيروقراطية ستتعامل مع الأمر بمنطق أنها حملة قصيرة ويمر الأمر ويعود الوضع كما كان، فالرئيس سعيد لا يمكن أن يعود إلى الموضوع في وقت قريب كما أن المحاسبة ستطال مسؤولين كبارا ولن تصل إلى مسؤولي بلدية صغيرة أو عمال شاحنات النظافة.

وأعلنت وزارة الداخلية عن إقالة المكلف بتسيير الشؤون العادية لبلدية تونس وإدارتها، والمدير العام للطرقات والمناطق الخضراء والمنتزهات ببلدية تونس.

وأشارت إلى أن هذه الإقالات تأتي عقب زيارة الرئيس سعيّد في يونيو “إلى الإدارة الفرعية للمعدات والإدارة الفرعية للنظافة التابعتين لبلدية تونس العاصمة ومعاينته للعديد من الإخلالات ومظاهر التقصير في مستوى الإدارتين والمعدات الموجودة بهما والتهاون في أداء الواجب من المسؤولين”.

وما بدا خلال فيديو حوار الرئيس سعيد مع أحد المسؤولين في الإدارة المعنية هو تحميل المسؤولية لمن هو في منصب أعلى أو لأناس عملوا في السابق، وهذا تهرب من المسؤولية يلجأ إليه كثيرون للإيحاء بأنه ضعيف ولا حيلة له ومع ذلك فهو يريد أن يكون مسؤولا.

وتلت إقالة المسؤولين في البلدية إقالات أخرى في شركة توزيع المياه الحكومية كان آخرهم الرئيس المدير العام للشركة بسبب العجز عن توفير المياه بشكل منتظم لمناطق مختلفة من البلاد. ليس دور المسؤول تبرير الواقع والشكوى من عدم نزول الأمطار أو من محدودية الخطط المخصصة لبناء السدود.

مهمة المسؤول أن ينظم ما هو قائم بشكل عادل، فلا يمكن أن يتم قطع المياه أو الكهرباء بشكل متكرر على مناطق بعيدة في حين تكون الانقطاعات محدودة جدا في المدن الكبرى. منطق الدولة أن كل المناطق متساوية في الاهتمام، ومنطق المسؤولين الأولوية للمدن والمناطق القريبة من الأضواء والإعلام.

◙ الرئيس سعيد يعتقد أن أزمة الخدمات في جزء كبير منها تتعلق بتقصير المسؤولين وهيمنة البيروقراطية على قرار الإدارة ليتحول الأمر إلى ما يشبه الدوامة

لم يعد من الممكن أن تتصرف شركة المياه أو شركة الكهرباء مع الناس بتعال ودون قراءة حساب لمصالحهم وأوضاعهم بزعم أن تلك حدود إمكانياتهما، وأنهما مضطرتان إلى قطع المياه والكهرباء في المناسبات العامة. المشكلة ليست في القطع، وإنما في استهداف مناطق دون أخرى وغياب التوزيع العادل للقطع.

وعادة ما لا يجد الناس من يشتكون إليه. وللتنفيس عن غضبهم يكتفون بالدعاء على المسؤولين أو بصرخات على مواقع التواصل الاجتماعي. الآن يعرف المسؤول، الكبير والصغير، أن المساءلة يمكن أن تصل إليه، وأن صفته وشبكة علاقاته لن تسمحا له بأن يظل بمنأى عن المحاسبة.

لقد أرسلت الإقالات الأخيرة إشارات واضحة إلى أن المحاسبة لا تتعلق فقط بمن يسرق أو يتحايل، فهناك وجه مهم منها يتعلق بمن يفشل في تحمل المسؤولية خاصة في المواقع المتقدمة، إما لعدم قدرة على مجاراة تعقيدات مهمته، وإما لتقصير واستهانة. ويؤكد قيس سعيد أنه لا يوجد مسؤول محمي من الإقالة والمحاسبة في حال فشله وتراخيه في خدمة الشعب التونسي أو تغطيته على الفساد والفاسدين.

وكشفت الإقالات التي سبقت الإقالات الأخيرة، وشملت وزراء وولاة (محافظين) وقبلهم مسؤولين في مواقع مختلفة، أن قيس سعيد لا ينظر إلى المحاسبة على أنها اتهام للوزير أو المسؤول وليست استهدافا له، وإنما من منظار حق الدولة والناس، وهو ما يعني أن المسؤول الذي يعجز أو يتراخى عن أداء دوره أو يحوله إلى نافذة لتصفية حساباته الشخصية مع كوادر المؤسسة والموظفين أو المواطنين، لا مكان له في الحكومة ومؤسسات الدولة.

هل سيستوعب المسؤولون رسالة الرئيس سعيد من الإقالات، أم يستمر البعض في أسلوبه القديم حتى يجد الحقيقة الجديدة ماثلة أمامه، وهي أن يوم الحساب قد أتى ولن ينجو منه مقصر ولو بعد حين.

المفارقة أن البعض يعتقد أن المبالغة في إظهار الولاء للرئيس سعيد والهجوم على المسؤولين الذين سبقوا يمكن أن تنقضه من المحاسبة وتحميه في مكانه. هذا ربما كان في السابق، لكن الآن من يخطئ يتحمل مسؤوليته ولو كان وزيرا فما بالك بمسؤول صغير ركب ومازال يركب موجة شعارات كل من حكموا.

5