المرونة تمهد لحل أزمة المهاجرين الأفارقة في تونس

قبول المهاجرين العودة الطوعية ما يزال محدودا، لكن العملية في تصاعد، ما يؤشر على أنها ستكون حلا فعليا للأزمة بدلا من خطاب التحريض والشيطنة.
الأحد 2025/04/27
تغير الخطاب يمهد لحل واقعي

اختارت الحكومة التونسية، وبالأساس الأجهزة الأمنية، أن تتصرف بعقلانية وهدوء في حل مشكلة المهاجرين الأفارقة عن طريق الحوار وتقديم عروض المساعدة على العودة الطوعية، وقد نجحت أولى الخطوات وبشكل لافت، وفق ما أشار إلى ذلك حسام الدين الجبابلي المتحدث باسم الحرس الوطني التونسي.

فتحت تونس قنوات الحوار المباشر مع المهاجرين، الذين باتوا يعرفون أن الوصول إلى أوروبا صار أمرا شبه مستحيل في ظل التشدد الأمني من ضفتي المتوسط. فالحوار والتعامل الهادئ وجدا تفاعلا لدى الكثير من المهاجرين بعد أن تأكدوا من أن الحل إما العودة أو البقاء في تونس في ظروف صعبة.

صحيح أن قبول العودة الطوعية ما يزال محدودا، لكن الأهم أن العملية باتت في تصاعد، ما يؤشر على أنها ستكون حلا فعليا لأزمة الأفارقة الذين بنوا لأنفسهم مخيمات لجوء مؤقتة في مزارع الزيتون بقرى محيطة بمدينة صفاقس، وقبلوا أن يعيشوا في ظروف صعبة وقاسية من أجل العبور إلى أوروبا. لكن بعد تعطل المهمة، في ظل رفض أوروبي حاسم لاستقبال مهاجرين جدد وإعادة من يفلت من رقابة دول الضفة الجنوبية إلى الشواطئ التي انطلقوا منها، بات خيار العودة الطوعية هو الحل.

ما يهم التونسيين أن بلادهم نجحت في تحريك جدي للملف بأسلوب مرن وأنها لم تستجب لخطاب شعبوي رافض للأجانب صادر عن بعض النخب والفاعلين في مواقع التواصل الاجتماعي. فلو أن الأجهزة الأمنية اتبعت طريق التصعيد والإخلاء بالقوة، ربما كانت ستحقق نتائج أسرع، وستجد دعما أقوى، لكنها ستخلق لنفسها وللبلاد أزمة مضاعفة من ناحية التزامها بالقوانين الدولية والمسّ من أواصر الدولة وعمقها الأفريقي خاصة أن لدى تونس كوادر وعمالة متخصصة تشتغل في الكثير من الدول الأفريقية. لقد حمت تونس صورتها ومصالحها ومصالح أبنائها في القارة الأفريقية وامتصت التوتر الذي تأسس في بعض البلدان خلال الأشهر الأولى من أزمة المهاجرين الأفارقة في تونس وما رافقها من خطاب تحريضي وسط بعض النخب التونسية.

◙ ما يهم التونسيين أن بلادهم نجحت في تحريك جدي للملف بأسلوب مرن ولم تستجب لخطاب شعبوي رافض للأجانب 

فهمت الدولة التونسية الرسالة التي حملتها ردات الفعل الخارجية القوية ضد خطاب استهداف المهاجرين الأفارقة وشيطنتهم والدعوة إلى محاصرتهم، واختارت أكثر الطرق أمانا ومقبولية في الداخل والخارج، وهو الحوار. هذه الإستراتيجية مكّنتها من تجنب الصدام مع المنظمات والجماعات المدنية واسعة الانتشار والتأثير. وعلى العكس فهي تستفيد من بعض هذه الجمعيات في تأمين العودة الطوعية وتقديم المساعدات الصحية والإنسانية لمن يستحقها من المهاجرين.

لا يمكن لأيّ دولة أن تظل باستمرار في حالة استنفار وأن تجمع خصومها في جبهة واحدة. من حق الدولة، أيّ دولة، أن تحافظ على سيادتها وأن تتصدى لمن يخرقها تحت أيّ عنوان، لكن من المهم أن يتم ذلك في هدوء وبخوض معارك متفرقة وليس على جبهات متعددة في وقت واحد.

وبالتأكيد فإن المرونة التي أبدتها تونس في إدارة ملف المهاجرين يمكن أن تساعدها في إدارة ملفات أخرى بما في ذلك خلافها مع صندوق النقد الدولي خاصة أن لا شيء تغير في المشهد مع غياب البدائل الخارجية الثنائية أو الجماعية واكتفاء تونس بالرهان على القدرات الذاتية.

وأعلنت المنظمة الدولية للهجرة الخميس أنها سهّلت منذ يناير العودة الطوعية لأكثر من 2300 مهاجر من تونس إلى بلدانهم الأصلية، ونحو 7000 في عام 2024، وهو رقم يمثل زيادة حادة مقارنة بالعامين السابقين (2558 عودة في عام 2023 و1614 في عام 2022).

وتقول السلطات التونسية إنها تعمل مع المنظمة الدولية للهجرة لتكثيف عمليات الترحيل الطوعية للمهاجرين العالقين في تونس نحو دولهم الأصلية.

ولا شك أن الأهم في مقاربة موضوع المهاجرين أنها انتهت إلى وضع يبدد المخاوف السابقة بشأن توطين الأفارقة على الأراضي التونسية، حيث سادت الكثير من التسريبات بشأن اضطرار تونس للإبقاء على الآلاف من لأفارقة على أراضيها بالاتفاق مع دول الاتحاد الأوروبي. لكن التحرك الأخير بتفكيك الخيام الموجودة وتأمين عودة المئات يظهر أن التوطين ليس قدرا مقضيا، وأن تشدد الأوروبيين في رفض المهاجرين وإعادتهم إلى تونس لا يعني آليا أن تونس ستبقيهم لديها.

يعرف الأوروبيون أن تونس لا تقدر على توطين الآلاف من اللاجئين على أراضيها لوقت أطول. فظروفها الاقتصادية والمالية لا تسمح بذلك، فضلا عن تأثير قرار كهذا على الوضع الداخلي سياسيا واجتماعيا. ولأجل ذلك فقد ساعدوا على إنجاح مفاوضات مباشرة مع الدول الأصلية للمهاجرين لإعادة استقبالهم مع وعود دعم اقتصادي.

◙ الأهم في مقاربة موضوع المهاجرين أنها انتهت إلى وضع يبدد المخاوف السابقة بشأن توطين الأفارقة على الأراضي التونسية

إنقاذ هؤلاء المهاجرين مسؤولية الجميع، وهي حاجة ملحة الآن، وتأجيلها أو التغطية عليها ليس في مصلحة تونس. الحل في تصدير الأزمة لمن له ضلع مباشر فيها بدل تلقي الانتقادات والاتهامات بالعنصرية، وهو ما نجحت تونس في تلافيه. وأكد الجبابلي هذه التوجه في تصريحات صحفية بالقول إن "إستراتيجية الدولة هي ألا تكون تونس مكانا لاستقرار المهاجرين غير النظاميين أو عبورهم. وتونس تنسق مع بلدان الانطلاق والدول المضيفة، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية الدولية، لضمان العودة الطوعية."

وأضاف الجبابلي أنّه رغم إقدام مهاجرين غير نظاميين على إشعال النيران في بعض المخيّمات قبل تدخّل وحدات الحرس، فضلا عن حجز أسلحة بيضاء، لم يتمّ استعمال القوّة، وتمّت إزالة المخيّمات وإخلاؤها وتعقيمها طبقا للقانون، "وهو درس آخر تُقدّمه تونس في كيفية التعامل مع المهاجرين غير النظاميين."

ومن المفيد الإشارة إلى أن تونس نجحت في إقناع الأوروبيين بفكرتها التي تقوم على دعم التنمية في الدول الأصلية للمهاجرين التي تعيش أوضاعا صعبة ومعقدة بسبب الحروب والتغييرات المناخية. وقالت وزارة الخارجية التونسية في فبراير الماضي إن "المقاربة العادلة والشاملة لهذه الظاهرة تتطلّب التركيز على معاجلة الأسباب الحقيقيّة المسبّبة لها وعدم الانكفاء إلى حلول أمنية صرفة، وذلك من خلال تعزيز التعاون مع كافة الشركاء الإقليميين والدوليين."

وقد أشرت في مقال سابق إلى أن الحل عبر الحوار والتفاوض بين مختلف الأطراف المتداخلة بالقول "هذه مقاربة ستنجح مع الوقت في وقف موجة الهجرة، ما عدا ذلك يصبح الأمر صعبا لأن الخيار الأمني وحده لا يكفي مع قدرة المهربين على تغيير أساليبهم في مواجهة حزم دول العبور، وقدرات تونس لا تسمح لها بأن تركز الجهد والمال والوقت على معركة ليست من صميم معاركها."

ووفقا للسلطات، نصب حوالي عشرين ألف مهاجر وصلوا على دفعات منذ العام 2023 إلى العامرة وجبنيانة خياما في بساتين زيتون بعد نزوح الكثير منهم من مدينة صفاقس المجاورة. وكان تعايشهم صعبا مع السكان المحليين الذين ندد الكثير منهم باحتلال أراضيهم.

5