المثقفون العرب وكأس العالم.. علاقة مليئة بالخفايا

المثقفون يتفاعلون مع الاحتفاليات والمناسبات الدورية بألوان أيديولوجية.
الاثنين 2022/12/12
المثقف يحول لعبة إلى سجال (لوحة للفنان سليمان جوني)

ليس المثقف بمعزل عن مجتمعه وعمّا يحدث من حوله، حتى وإن ادعى الرفعة أو الرقي على بيئته ومحيطه فإنه مجبر على التأثر بهما، ولعل هذه الأيام التي تشهد جوا محموما من مباريات أشهر لعبة عالمية، كرة القدم وكأس العالم، فإن المثقفين انخرطوا بدورهم في هذه الأجواء، لكن وسط تباين غريب أحيانا.

عادة ما تنتظر النخب الثقافية في تونس المواسم الاحتفالية والمناسبات الدورية من أعياد ومهرجانات ولقاءات ثقافية، وحتى مونديالات كروية، للانقضاض على بعضها بعضا، وتراشق الاتهامات، والتحضير للمزيد من الانشقاقات.

لا يتعلق الأمر هنا بمعارك صحية تحتفي بالاختلاف وتغني المشهد الثقافي بل بانقسامات متشنجة واصطفاف مريب مع هذا الفريق أو ذاك.

المثقف والفوتبول

عادة ما تأخذ هذه المعارك حامية الوطيس طابعا فئويا تحضر فيه العصبيات الأيديولوجية والولاءات الحزبية، لكن المصالح المادية هي المرجع والفيصل في كل الأحوال.

بوكس

المثقف ليس ملاكا على كل حال، وليس “إلكترونا منفصلا” عن دورة النظام المجتمعي ثم إنه ليس قادما من المريخ أو من بلاد باذخة الرقي الحضاري.

إنه ابن هذه البيئة مع كل ما تحمله من هنات وتناقضات. أوليس هو الذي ينظّر لمفهوم “المثقف العضوي” حسب قراءة المفكر اليساري الإيطالي أنطونيو غرامشي، فكيف إذن نريده أن يكون بعيدا عن تناقضات مجتمعه، ننزهه ونجرده من أمراضه ثم نطلب منه أن يكون فاعلا ومنفعلا في مجتمعه.

وبالعودة إلى الجولات التي تنتظر من المثقف التونسي خوضها، فإنها عديدة ومتنوعة بكثرة وتلون ما يجري كل يوم في مجتمع لا يستقر على مناسبة ومهووس بثقافة المواسم.

قد يبدو الأمر في ظاهره مبهجا ويعكس ديناميكية تتمرد على الرتابة وتكسر الجمود، لكن ما يحدث في تونس من زوابع هو لصيق بصفحات السوشيال ميديا وبلاتوهات القنوات الخاصة التي تستخدم فنانين ومثقفين حطبا في وقودها، ومصدرا لكسب المزيد من الإعلانات بفضل نسب التفاعل والمشاهدة.

المسألة إذن، ليست من ذلك الصنف الراقي الذي كانت تشهده فرنسا مثلا، أيام ستيفان مالارميه وبول فاليري، ومن بعدهما جان بول سارتر وألبير كامو، وإنما ما يشبه خناقات نساء في صالون حلاقة بحي شعبي.

لا يمكن التعميم طبعا، فما زال هناك من يتمثل نبل ورقي المثقف الحقيقي في سجالاته، لكن هذا الصنف بات أقلية معزولة وترفض الظهور الإعلامي المبتذل.

قلنا إن المناسبات الاحتفالية بعدد أيام العام على المستوى الاجتماعي، الديني والثقافي والسياسي والرياضي، لذلك تكثر معها السجالات: من سعر أضحية العيد، إلى إفطار رمضان، مرورا بالعودة المدرسية والمهرجانات الفنية والانتخابات التشريعية والرئاسية، ووصولا إلى أداء الفرق الرياضية العربية والدولية في مونديال الدوحة هذه الأيام.

ما من مناسبة حلت بتونس إلا وفتحت جدالا عقيما لا يغلق إلا عند مناسبة أخرى جديدة. وهكذا دواليك.

إنها، وبلا شك، مسألة معقدة ومتشابكة على مستوى علم النفس الاجتماعي، ولا تغيب تركيبة الأسرة والمجتمع عن هذا السلوك، وعزل المثقف فيها عن محيطه بكل أمراضه واضطراباته.

ما من مناسبة حلت بتونس إلا وفتحت جدالا عقيما بين المثقفين لا يغلق إلا عند مناسبة أخرى جديدة

التونسيون يتخاصمون مثلا، مع زوجاتهم في الأيام والحالات الاعتيادية ـ إن وجدت ـ فما بالك بالمناسبات التي جُعلت للفرح والاحتفال بحسب ما هو متعارف عليه، لكنها غالبا ما تصبح نكدا وفرصة لفتح الدفاتر وتصفية الحسابات.

إنها فرص لنوع من التصنيف وتبادل الاتهامات بحكم فرصة الالتقاء الذي لا يتحقق. فما أتعس أن يلتقي زوجان للعتاب والخناق والمحاسبة وتبادل عبارات الصمت والاتهام. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى النخب الثقافية والفنية.

هي حقيقة لا ينكرها إلا المكابرون والمدعون بأن حياتهم وردية تزقزق فيها العصافير وتنساب فيها جداول الماء عذبة رقراقة.

النخبة الثقافية ليست، بالطبع، مستثناة من هذا المشهد الموغل في البؤس والقتامة، لكنه الواقع بالنسبة إلى المبدعين الحالمين بتغيير الواقع.

مونديال قطر مثلا، يمكن أن يكون فرصة لاجتماع العائلة والمساهمة ببعض الحماس والصراخ أمام شاشة التلفزيون كمناسبة لتفريغ الشحنات السلبية والبحث فيها عن فرح مفقود.

لكن هيهات، فالزوج يصبح أكثر ابتعادا عن البيت وإصرارا على البحث في المقاهي الذكورية عن احتفالية تشاركية بحكم غريزة وطبيعة الحالة، والتي لا يمكن نفيها حتى لدى المجتمعات الأوروبية وغيرها، لكن المسألة عندنا، تبدأ رويدا رويدا في أخذ منعطق سياسي.

المثقف التونسي لا يمكن عزله عن هذه الهستيريا الممتعة، ولا تفريقه عن باقي الفئات المجتمعية. مع فارق ملحوظ وهو أنه كثير المبالغة في ربط الفوتبول بالسياسة وأزمات المجتمع، لذلك تجده شديد الاصطفاف السياسي والأيديولوجي، وإن كان أقل معرفة بخفايا المستديرة الساحرة وتقلباتها.

الخصام السياسي والثقافي

◙ جرح الإعلام الجزائري سوف يظل ماثلا (لوحة للفنان سيروان باران)
◙ جرح الإعلام الجزائري سوف يظل ماثلا (لوحة للفنان سيروان باران)

أما الذين يبدون استخفافهم بالفوتبول وربطه بالسوقة والرعاع، فيجدون أنفسهم في “الأوف سايت” أو “التسلل” فيحاولون مجاراة الحالة، خصوصا وأن المنتخب الوطني في خضم المسابقة.

صفوة القول إننا، جميعا، كائنات كروية ولكن بنسب متفاوتة في الحماس والإلمام بالتفاصيل. وما يجمعنا هو اصطياد الهفوات والأخطاء لاستغلالها ضد الخصم.

هذا الخصم الكروي يصبح مع احتدام الحماس خصما سياسيا وثقافيا، ويدلي فيه المثقف بدلوه، على اعتباره أكثر معرفة واطلاعا، وأكثر حنكة في صناعة التبريرات.

كرة القدم كانت ولا تزال تفرق بين الأزواج سواء كانوا مثقفين أو غير ذلك، لكنها فرصة لنعمة نسيان المتاعب الكبيرة، ومناسبة للانشغال بالتفاصيل.. “هكذا نبعثر أنفسنا خشية انفجار ما”.

المناسبات والاحتفاليات إذن، سكين دو حدين ـ بل ذو نصلين ـ ذلك أنها تقرّب وتبعّد في ذات الوقت، ذلك أنها من ناحية، تقلب صفحة خلافات يوم أمس، لتفتح خلافات جديدة اليوم أو غدا.

إن كنت اليوم مع البرازيل في الفوتبول فستجد نفسك مع الأرجنتين في السياسة، وإن كنت حزنت لانسحاب ألمانيا فسينظر إليها زميلك بنوع من التشفي بسبب موقف لا علاقة له بالفوتبول.

أما عن المنتخبات الكروية العربية المشاركة في مونديال قطر وموقف المثقفين منها، فحدث ولا حرج، إذ تحضر السياسة والعصبيات والتحالفات أكثر من الفرجة، وإن كان العرب قد اجتمعوا على مناصرة منتخباتهم.

لكن جرحا سوف يظل ماثلا، وقد تسبب فيه الإعلام الجزائري المحسوب على الثقافة في هذا البلد الشقيق، وهو التعليق الصحفي والذي نددت به جماهير واسعة وسخرت منه على مواقع التواصل، ويقول “منتخب إسبانيا يضيّع 3 ضربات جزاء ويُقصى من كأس العالم”.

12