المارون بين الكلمات

عند كتابة أي نص مترو عن أي فنان تشكيلي من النادر جدا أن تكون المهمة الأصعب هي الحصول على المعلومات الأساسية التي تتعلق بالفنان مثل اسمه الكامل ومكان إقامته والصالة الذي سيعرض فيها أعماله الفنية. لذلك وفي أحيان كثيرة أقوم باتصال بسيط بعد كتابة المقال مع الصالة الفنية أو الفنان في حال نسيت، أو كنت غير متأكدة حول تلك المعلومات “الأولية”.
خلافا لذلك ومنذ بضعة أشهر، اتصلت بالصالة لأسأل أحد الموظفين عن جنسية الفنانة المعاصرة التي كانت حينها تعرض لها أعمالها، وذلك بعد أن نبهني القيّم على الصفحة التشكيلية في جريدة “العرب” الموقرة أنني لم أذكر جنسيتها.
هكذا بدأت رحلة الاستفسار والاستقصاء التي استمرت لمدة يومين دون فائدة وكادت أن تطيح بموعد صدور المقال لو لم يأخذ المسؤول عن الصفحة قرار تجاهل ذكر الجنسية ونشر المقال.
أما ما حدث خلال هذين اليومين فيستحقان مقالاَ طويلاَ أكثر أهمية من الأعمال الفنية ذاتها التي تقاذفتها أمواج لم تعد تذكر لا من أي بحر انتقلت ولا على أي صخور ارتطمت. وقد تجلى ذلك عميقا في اختيار الفنانة للمراجع التلمودية/ الفكرية لأعمالها الفنية التي ظهر من خلالها هول التشرذم الروحي والفكري والمرجعي/الثقافي الذي تعيش فيه الفنانة.
و في اعتقادي تتشارك فيه مع الكثير من الفنانين العرب المعاصرين، خلافا لبعض الفنانين ومن أمثالهم الفنان العراقي “مؤيد محسن”، والعراقي “إياد القاضي” والعراقية “ليلى كبة كعوش”، والجزائري “مطيع مراد”.
التالي هو مختصر الحوار الهاتفي الهام الذي جرى بيني وبين المسؤولة عن الصالة حول جنسية الفنانة:
- ما هي جنسية الفنانة؟
(بعد لحظات من الصمت)
- جنسية الفنانة؟ لا أعرف.
- من يعرف؟
-الفنانة. هذا رقمها.
أرسلت للفنانة عبر الواتساب رسالة قصيرة أسألها فيها عن جنسيتها. لم أحصل على جواب. أعدت اتصالي بموظفة الصالة لتخبرني بأن الفنانة قالت لها بأنها “أميركية”.
- هل هي أميركية؟ اعتقدت أنها عربية فوالداها عربيان؟
- لا أعتقد أنها أميركية تماما ولكن يمكن أن تذكري ذلك.
- لا أستطيع أن أكتب في المقال “تقريبا أميركية”.
- هي تريد أن تكتبي أميركية. ولكن لحظات لأتصل بأحدهم وأتحقق أكثر.
بعد أكثر من ساعة أعدت الاتصال فأجابتني الموظفة من جديد:
- امها عراقية. ولكن أردنية وهي تعيش دائما في أميركا.
- ما هي الجنسية التي يجب أن أذكرها في نهاية المطاف؟
- اذكري أنها “أميركية تلقت تعليمها في أميركا وتعيش في أميركا وإن كانت قبل ذلك عراقية-أردنية”.
الفنانة أميركية، ولكنها كانت “قبل ذلك” أردنية وعراقية… أحالتني هذه الجملة إلى قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان “المارون بين الكلمات العابرة”.
عدت ابحث عن كلماتها لأقرأها في ضوء آخر وربما مع بعض التأويل الشخصي الذي لا يخرج عن روح القصيدة:
“أيها المارون بين الكلمات العابرة/ احملوا أسمائكم وانصرفوا/ وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا إنكم لن تعرفوا/ كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء/ أيها المارون بين الكلمات العابرة/ فلنا في الأرض ما نعمل/ ولنا الماضي/ ولنا صوت الحياة الأول/ ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل”.
لم نورد في المقال ما طلبت القيمة على الصالة. اخترنا أن نتخطى الموضوع/ القضية تماما تفادياُ من أن يُفهم صح أو خطأ.
أذكر أن حديثا متأرجحا ما بين الجدية الصارمة والمزاح المرّ دار بيني وبين مسؤول تحرير الصفحة التشكيلية في الجريدة انتهى بذكري له أن ما جرى يستحق مقال رأي لن تبدعه إلا أقلام فلسطينية تعرف تماما معنى الهوية وقيمة استعادة الجنسية الأصلية بغض النظر عن أي جنسية أخرى قد تحصل عليها وعن أي أرض قد تنبض فيها حبرا يسيل طوال حياتها.