"الكيت كات" لا يمكن نسيانه حتى وإن نسينا مالك الحزين

مجتمع يدّعي الانفتاح إلى درجة الانغلاق وكفيف يبصر أكثر من جميع المبصرين، وبصيرة سينمائية تلامس الإعجاز.. باختصار هذا هو فيلم “الكيت كات” وهذه هي رواية إبراهيم أصلان، وهذا هو أداء محمود عبدالعزيز المعجز إلى حد الإذهال.
“يلاّ بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله، وكل واحد مننا يركب حصان خياله، هنهرب من النهارده ونهرب من المكان”.
كانت هذه كلمات سيّد حجاب التي أداها محمد عبدالعزيز في فيلم “الكيت كات” الذي صنف في المرتبة الـ24 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية بحسب استفتاء النقاد. وبالرغم من الإشادات الكثيرة التي حظي بها الفيلم إلا أن شهادة سيدة الشاشة العربية لها مدلول مختلف سواء لصناع الفيلم أو لشهادة التاريخ بشكل عام. فمن خلال حوار قديم لجريدة “الحياة” تم نشره في عام 1993 قال الصحافي وليد السيد إنه حينما سأل فاتن حمامة عام 1991 عن رأيها في الجيل الجديد من مخرجي السينما أكدت أنها ترى داود عبدالسيد هو “أخطر مخرج بين أبناء جيله”.
تفوق السينما على الكتابة
هو ليس فيلما بل قصيدة، من أجمل ما خطته السينما المصرية في تاريخها. نال العديد من الجوائز والاستحقاقات، وعدّه النقاد والمتخصصون من أروع ما قدمته السينما العربية.
هو دليل على أن السينما بإمكانها أن تتفوق على الرواية، وتقيم الدليل على أن ما يحدث أمام شاشة الكاميرا، أهم بكثير، مما كان يخطر ببال المؤلف ويتخيّله القارئ.
إبراهيم أصلان في روايته “مالك الحزين” لم يكن سهلا، لكن داود عبدالسيد كان أخطر في “الكيت كات”. رائعة تفوقت فيها السينما على الكتابة، وهو أمر نادر في تاريخ الدراما التي كتبتها السينما وتفوق فيها الممثلون عمّا كان يرسمه الكتّاب.

رائعة تفوقت فيها السينما على الكتابة، وهو أمر نادر في تاريخ الدراما التي كتبتها السينما وتفوق فيها الممثلون عمّا كان يرسمه الكتّاب
رحل الذين رحلوا: إبراهيم أصلان الذي توفي في 7 يناير عام 2012 عن عمر ناهز 77 عاما، وهو أحد أبرز كتاب جيل الستينات في مصر، وصاحب رواية “مالك الحزين” وهي أولى رواياته التي أدرجت ضمن أفضل مئة رواية في الأدب العربي وحققت له شهرة أكبر بين الجمهور العادي وليس النخبة فقط، رغم أنه لم يحقق تعليما منتظما منذ الصغر، فقد التحق بالكتاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية.
محمود عبدالعزيز، الذي حصل على درجة البكالوريوس ثم درجة الماجستير في تربية النحل. وبدأت مسيرته الفنية من خلال مسلسل “الدوامة” في بداية السبعينات حين أسند له المخرج نور الدمرداش دورا في المسلسل مع محمود ياسين ونيللي، ومع السينما من خلال فيلم “الحفيد” أحد كلاسيكيات السينما المصرية (1974)، وبدأت رحلته مع البطولة منذ عام 1975 عندما قام ببطولة فيلم “حتى آخر العمر”، لكن “الكيت كات” خلّده وإلى الأبد.
حققت رواية “مالك الحزين” نجاحا ملحوظا على المستويين الجماهيري والنخبوي ورفعت اسم أصلان عاليا بين جمهور لم يكن معتادا على اسم صاحب الرواية بسبب ندرة أعماله من جهة وهروبه من الظهور الإعلامي
من جهة أخرى، حتى قرر داود عبد السيد أن يحول الرواية إلى فيلم تحت عنوان “الكيت كات” وبالفعل وافق أصلان على إجراء بعض التعديلات الطفيفة على الرواية أثناء نقلها إلى السينما، وبالفعل، عرض الفيلم، وكانت المفاجأة.
لا يمكن أن تحاور تسعينات القرن الماضي دون أن تتحدث عن فيلم “الكيت كات”، ولا يمكن أن يمر أمام عينيك واحد مثل أصلان والسيد وعبدالعزيز، دون ذكر “الكيت كات” بل لا يمكن أن تمر أمامك سجلات السينما المصرية و”غرائبها” دون ذكر “الكيت كات”.
رحل محمود عبدالعزيز، الفتى الوسيم، الخجول.. والجريء إلى حد الإذهال. لم يمر على السينما المصرية واحد أكثر إدهاشا ومفاجأة ووسامة من محمود عبدالعزيز.
لم تحظ رواية بـ”صدمة جماهيرية” كما حظيت بها “مالك الحزين” في “الكيت كات”، فمن أين جاء هذا المجد؟
هو فيلم من إنتاج سنة 1991، إخراج وإعادة تأليف داود عبدالسيد وإنتاج حسين القلا، ومن بطولة محمود عبدالعزيز، وأمينة رزق، وشريف منير، وعايدة رياض، ونجاح الموجي، وعلي حسنين.. هل هذا يكفي للحديث عن “الكيت كات”؟
جريء إلى حد الوقاحة
هل يكفي الحديث عن أنه فيلم من وحي رواية مالك الحزين للروائي إبراهيم أصلان. ويحتل الفيلم المركز الرابع والعشرين في قائمة أفضل مئة فيلم مصري حسب استفتاء النقاد عام 1996، كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم من مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1991.
“الكيت كات” أهم من هذا بكثير.. إنه شريط يستلهم قدرة الإنسان على التفوق والكشف والاكتشاف. صريح وصادق في الكذب والمناورة، مذهل في سبر أغوار النفس البشرية، وجريء إلى حد الوقاحة.
مجتمع يدّعي الانفتاح إلى درجة الانغلاق، وكفيف يبصر أكثر من جميع المبصرين، وبصيرة سينمائية تلامس الإعجاز.
كيف لك أن تتعرّف إلى مجتمع عبر عينين منطفئتين، وزوايا ضيقة وحارات منسدّة، لكنها واسعة ورحبة كقلم إبراهيم أصلان ورؤية داود عبدالسيد.
أكاذيب وتوسّلات ومسامرات وخيانات زوجية، ومصارحات عاطفية تكشفها كاميرا داود عبدالسيد، دون مواربة وبلغة لا يدركها إلا كفيف.
مصارحات تصدح عبر الأبواق ومكبرات الصوت حين تعجز العين عن لغة الكلام، وسخرية تمضي بالسخرية نحو عذوبتها في رائعة سينمائية بلغت حد الإعجاز.
كيف لك أن تتخيّل الشيخ حسني، الذي فشل في أن يكون منشدا أزهريا، ونجح في أن يكون حشاشا وعازف عود، من أن يكشف الزيف وقد “فشل” في حياته الاجتماعية فشلا ذريعا؟
كيف لهزيمة أن تمسي انتصارا، وكيف لعين عمياء أن تكشف كل هذا الزيف المجتمعي؟ تلك حكاية مالك الحزين التي أرادها إبراهيم أصلان ورآها داود عبدالسيد.
هل نختصر الحكاية ونقول إن الشيخ حسني قد اكتشف أن ابنه يوسف المحبط بعد تخرجه من الجامعة وعدم حصوله على عمل ويريد السفر للخارج، على علاقة بالمطلقة فاطمة (عايدة رياض) والتي تركها زوجها العربي بعد أن قضى مأربه منها وسافر وأرسل لها ورقة الطلاق. ومما أزعجه أن يوسف فشل جنسيا مع فاطمة، وبحث عن الهرم بالمكان الذي يسهر فيه وهو منزل الأسطى حسن، فلم يجده، فطلب منه أن يقضي حاجته بحمامه، والذي اكتشف أن الهرم كان مختبئا به، فظنه لصاً، وكانت فضيحة، ولكن فتحية لبست ثوب البراءة ورفضت اتهام زوجها لها بالخيانة، وطردته من المنزل، وفشل ضابط المباحث في القبض على الهرم متلبساً، لأنه يخفي البضاعة بمنزل فتحية، فلفّق له تهمة حشيش ووضعه بالحجز، وتمكن الضابط من ضبط شلة الشيخ حسني وهي تحشش، ولكن حسني تمكن من الهرب، وظن أن الهرم هو الذي وشى به، فدخل له الحجز بزيارة ليتأكد منه، وهي الزيارة التي مكنت الهرم من استبدال ملابسه بالحجز، فأفرج عنه وكيل النيابة.
واصطدم حسني بالشيخ عبيد (علي حسنين) الكفيف، وصحبه للسينما لمشاهدة فيلم أجنبي، وركب معه مركبا بالنيل، وحاول صبيان الفرارجي إغراقهما ليترك الشيخ حسني الدكان، ومات عم مجاهد (أحمد سامي عبدالله) بياع الفول، وأقام له حسني ليلة عزاء نام فيها صبي الكهربائي (علي إدريس) ونسى الميكروفون مفتوحا أثناء حديث الشيخ حسني عن كل أسرار الحي ففضح الفرارجي والقهوجي والصايغ وأم روايح ويوسف، الذي نجح أخيرا في علاقته مع فاطمة، كما أفشى بمكان المخدرات عند فتحية، ليخرج من عندها الهرم مسرعا والحشيش يتساقط منه، وصحب يوسف أباه ليركبا موتوسيكلا يقوده الشيخ حسني الكفيف ويسقطا في النيل، لكنهما يخرجان سالمين.
الذهاب بالخيال نحو أقصاه
ليست هذه هي الحكاية، إنما ظاهرها وقد امتنع الجميع عن روايتها، إنها روعة الحكاية التي لم يؤخذ منها غير طرفها.. وتلك أسرار إبراهيم أصلان في “مالك الحزين” وجموح داود عبدالسيد في “الكيت كات”.

غلاف رواية مالك الحزين
حققت رواية “مالك الحزين” نجاحا ملحوظا على المستويين الجماهيري والنخبوي ورفعت اسم أصلان عاليا بين جمهور لم يكن معتادا على اسم صاحب الرواية بسبب ندرة أعماله من جهة وهروبه من الظهور الإعلامي من جهة أخرى، حتى قرر داود عبدالسيد أن يحول الرواية إلى فيلم تحت عنوان “الكيت كات” وبالفعل وافق أصلان على إجراء بعض التعديلات الطفيفة على الرواية أثناء نقلها إلى وسيط آخر وهو السينما. عرض الفيلم وحقق نجاحا كبيرا لكل من شاركوا فيه وأصبح الفيلم من أبرز علامات السينما المصرية في التسعينات.صادمة هي كاميرا هذا العبقري
الذي ذهب بالخيال نحو أقصاه، ومذهل هذا الأداء الخرافي لفنان مثل محمود عبدالعزيز الذي قال في أحاديثه التلفزيونية، إنه جلس إلى دكاترة طب العيون لمعرفة فروق التعبير عن الانفعالات بين من ولد كفيفا ومن كف بصره، كما جالس مجموعة من المكفوفين. ولإعطاء تشخيصه مصداقية كان يضع أثناء التصوير عدسات لاصقة في العين تحجب الرؤية.
تمثل هذا الأخير لغة العميان حتى خلناه أعمى. ولم يغفل عن كل شاردة وواردة في أداء قل مثيله في السينما، وكثر في الحياة العادية المصرية.
هي ثقافة سائدة نقلها داود عبدالسيد إلى الشاشة الكبيرة، ولكن بكثير من الإبداع.
نكاد نجزم أنها المرة الأولى التي تتفوق فيها الكاميرا على القلم، وتنتصر فيها المشاهدة على القراءة، ولكن الفضل يعود إلى إبراهيم أصلان و”مالكه الحزين” أولا.
كتب الروائي الفلسطيني اللبناني إلياس خوري عن صاحب “مالك الحزين” بقوله “كان هذا الكاتب المصري شفافا كبحيرة المساء، يختزن بداخله مزيج التواضع والضوء. يكتب كمن يرسم المنمنمات، يوقظ الكلمات بقلمه، ويغفو على إيقاعها”.
وقال أحمد زكي عن دور زميله “محمود أدى دور الأعمى أفضل مني في دور طه حسين وأفضل من أي حد تاني شفته”، وحين تأتي هذه الشهادة من عبقري التقمص يجدر أن نتساءل عن سر إمساك محمود عبدالعزيز بزمام شخصية الشيخ حسني؟
“الكيت كات” فيلم لا يمكن أن ينساه كل من شاهده.. روعة في الأداء، رشاقة في الكاميرا المحمولة التي اخترقت الأسواق الشعبية وجابت الأحياء وتفرست الوجوه دون تكلف أو انفعال.
فيلم مصري بامتياز لأنه ينطق بنبض الشارع ويبتعد عن تلك الأعمال التي تنسج على منوال سينماءات أجنبية لا تشبهها.
حين اقتربت الكاميرا المصرية من القلم المصري، كان شريط “الكيت كات” وفاز الرهان على أفلام تشبه أصحابها ويصفق لها جمهورها، وتنال الجوائز.
هو فيلم مصري بنبضه وشخوصه وإيقاعه.. وينبّه أبناء جيله إلى أن صناعة السينما في مصر والعالم العربي، لا يمكن لها أن تستمر دون محيطها وتاريخها.
مرت سنوات طويلة على “الكيت كات” ولا يمكن أن يتجاهله كل من شاهده، نخبة وعامة، نقادا وعاديين.. إنه شريط يليق بالذاكرة الموسومة والذائقة الرفيعة.
وفي هذا الإطار قالت فاتن حمامة إنها قرأت سيناريو الفيلم الذي كتبه المخرج داود عبدالسيد، وأوضحت أنها رأت أن الفيلم يحمل داخله مشهدا يعدّ غاية في الروعة وأنها حينما قرأته ظلت تبكي، وهو المشهد الذي جمع الفنان محمود عبدالعزيز والفنان علي حسنين. وقالت سيدة الشاشة العربية “في هذا المشهد رجل أعمى يقابل رجلا أعمى آخر ويقول له (والنبي يا ابني اعبر بي الشارع) فيمسك الرجل بيديه ويعبر به حتى ينشأ بينهما حديث من أجمل ما يكون”.
وأكدت فاتن حمامة أن هذا المشهد قد وجدته في فيلم أميركي بعد أن كانت قد قرأت سيناريو فيلم “الكيت كات” بعشر سنوات وكان في فيلم “لا تسمع شرا ولا تر شرا” ولكنه كان عن شخص أعمى وآخر أصم يحدث بينهما مثل هذا الموقف الذي حدث بفيلم “الكيت كات”.
“الكيت كات” فيلم لا يمكن نسيانه.. حتى وإن نسينا “مالك الحزين”.