الكردي الراحل ثروت سوز فنان دائم التطلع إلى آفاق جديدة مغايرة

يهتم الفنانون والناشطون في كردستان العراق بالتذكير بتجارب بعضهم البعض، فهم يتناولونها بالبحث والتحليل بالقيمة التي تستحقها، من هذه التجارب تلك التي اتسم بها ثروت سوز الذي كان دائم البحث عن التجديد حتى صار أحد أعلام التعبيرية المعاصرة في المنطقة.
من الجميل أن يبحث الفنانون ومحبو الفن عن طرق في ملء الفراغ والتقصير الذي تتركه الهيئات والمؤسسات الثقافية الرسمية والمسؤولة عن ذلك، نعم من الجميل أن يفعلها المثقفون بجهودهم الشخصية ولو جزئياً مهما كان الحمل ثقيلاً ومهما كانت المفارقات كثيرة. لكن الأجمل هو أن يقوموا بتكريم المميزين منهم والتذكير بهم وبدورهم، الراحلين منهم والأحياء، فما لا يفعله المسؤولون عن الفن والثقافة يفعله الفنانون والعاشقون للفن التشكيلي، وما المعرض الذي قدمه غاليري سردم في السليمانية بكردستان العراق في عام 2011 تكريماً للفنان الراحل ثروت سوز (1956 – 2004) إلا أحد الجهود التي تبذل لسد الثغرات التي توجع الروح والقلب معاً، ولو أنها جاءت متأخرة لكنها خير من ألا تأتي أبداً.
كذلك ما يفعله الآن الأستاذ بختيار سعيد من السليمانية في كردستان العراق من جهود ليست قليلة لتنشيط الدورة الدموية في الجسد الثقافي الكردي على نحو عام، والتشكيلي منه على نحو خاص، وكذلك لتوثيق عجلة الفن لا في السليمانية فحسب بل في عموم كردستان، فهو أشبه بوزارة ثقافية متنقلة، وبكادر وحيد إلا من مساعدة بعض الأيادي الخيرة لأصدقاء خيّرين. فهو يكاد لا ينتهي من نشاط، إن كان معرضاً فردياً أو جماعياً أو ورشة عمل يشتغل فيها عدد غير قليل من الفنانين والفنانات، حتى يدخل نشاطاً آخر، حتى أنه أسس سمبوزيوم السليمانية للفن التشكيلي الذي بات تقليداً سنوياً ينطلق في بداية الشهر التاسع من كل عام.
هو الآن بصدد التحضير للدورة الرابعة للسمبوزيوم والذي يتحول إلى عرس فني تشكيلي حقيقي، إلى جانب كتاباته الكثيرة في هذا المجال. وفي الغد القريب سيخرج لنا بكتاب عن الفنان الذي بقيت روحه محفورة في قلوبنا آري بابان (1946 – 2020) كشكل من أشكال التذكير والوفاء والتوثيق.
اليوم يشتغل سعيد على ثروت سوز كأحد الأسماء المهمة في المشهد التشكيلي الكردي والذي كان له الدور الأكبر في إدخال فن الحفر الغرافيكي إلى مناهج تدريس معهد الفنون الجميلة في السليمانية، وما يفعله الفنانون والمحبون للفن لا يوازيه فعل، هي جهود مشكورة حتماً، وقد لا يلاقون أي تشجيع من أية جهة رسمية، لكنهم يحملون حبهم وقلوبهم الكبيرة القادرة على حمل كل ما هو جميل.
ما إن عاد ثروت سوز إلى السليمانية قادماً من بغداد، بعد أن تخرج منها، من معهد الفنون الجميلة في عام 1972، حتى حمل على عاتقه مع نخبة من الأصدقاء الفنانين الذين يؤمنون بالفن وما له من دور كبير في تقدم المجتمعات وبناء الدول، وأسرع بإدخال أسلوب الحفر على المعادن والخشب في مناهج معهد الفنون الجميلة لتكون باكورة دفع لعجلة الفن ومواكبته لكل ما يحدث في المعمورة. وهذه اللبنات وأشباهها هي التي حولت الثقافة إلى زاد لأبناء كردستان على نحو عام، ولأبناء السليمانية على نحو خاص التي باتت تحمل اسم عاصمة الثقافة الكردية.
الفنان يرتاد العتبات الكثيرة، المعتمة منها وغير المعتمة، يرتادها مفتونا بالتوغل فيها مهما كانت عائمة في الرعب
وليس اعتباطاً حين يقول عنه – أقصد عن ثروت سوز – الصديق سامي داؤود الذي بقي مديراً لدار وغاليري سردم لسنوات طويلة بأنه أحد مؤسسي الأسلوب التعبيري في الحركة التشكيلية في السليمانية. لهذا ليس كثيراً على ثروت سوز حين يقوم أحد أبناء مدينته بتوثيق كل ما يقع تحت يده من أعمال ومواد ومقالات عنه ليجمعها في كتاب بانورامي عنه، ليكون وثيقة حية تحتفظ بحرارتها بينهم.
أن يقال: تقاس الأوطان بمبدعيها، وهم الثروة الحقيقية لها، وهم لسان حالها عبر التاريخ وأزمانه، بل هم التاريخ الذي لا يمكن أن يلوث ولا يمكن أن يزيف. أن يقال كل ذلك هي حقيقة ويعز علينا أن نجدهم غير ذلك، فما يتركونه من أعمال هي الشاهدة على الزمن، بسنينه ولحظاته، ببطولاته وهزائمه، بأفراحه وأتراحه، وبمساراته مهما كانت خاضعة لنطاقات تحمل قيودها في ذاتها، وبوصفهم كاشفي الجمال يجدر بنا الالتفات إليهم على نحو دائم، وما مقاربتنا هذه من أعمال ثروت سوز إلا نبعاً من ينابيع الالتفات الذي يستحقونه، ما هي إلا محاولات لإعادة جزء من مستحقاتهم في ذممنا، فما قدموه لنا لا يقدر بثمن، يكفي أن يشار إليهم حتى نكون.
من جهة أخرى هم مناهضون لإغلاق مخيلة القارئ، إن كان بفرض نمط واحد، وذائقة واحدة، أو بفرض ولادات قيصرية تغدو مشاهد واحدة، بلون واحد، بضحكة واحدة، بحسرة واحدة، وكأن القارئ لا حول له في الاختيار، فهو ليس أكثر من كرة خاوية تحشى بطعم واحد، نعم هم مناهضون لهذا الإغلاق وضد هذا الفرض التعسفي الذي يقتل الإنسان ويسلب منه حريته التي هي أغلى ما يملك، بل هي أغلى ما في الوجود.

من جهة أخرى هم مناهضون لإغلاق مخيلة القارئ، إن كان بفرض نمط واحد، وذائقة واحدة، أو بفرض ولادات قيصرية تغدو مشاهد واحدة، بلون واحد، بضحكة واحدة، بحسرة واحدة، وكأن القارئ لا حول له في الاختيار، فهو ليس أكثر من كرة خاوية تحشى بطعم واحد، نعم هم مناهضون لهذا الإغلاق وضد هذا الفرض التعسفي الذي يقتل الإنسان ويسلب منه حريته التي هي أغلى ما يملك، بل هي أغلى ما في الوجود.
بهذه الحرية يرتاد الفنان تلك العتبات الكثيرة، المعتمة منها وغير المعتمة، يرتادها مفتوناً بالتوغل فيها مهما كانت عائمة في الرعب، يفتحها علّه يحمل الغد ويوغل في المجيء وهذا ما يجعله يتماسّ مع السماوات لأنه قد يصبح نبوءة بالمعنى الإنساني الشامل. فليس ثمة إنابة عنه، يكفيه أن يشتغل على نحو متزامن حتى يتراءى له الرمز الذي من خلاله ستنحدر كل اللحظات لتنام وتستيقظ بين ما أنجزه، فهو الحلقة المستيقظة دوماً في مسار الإبداع، يجري فيها وفق متطلبات فنية جمالية وحاجاتها لذلك تعتصر المسافة بينه وبين النبوءة وتكاد تمّحي وتضيع الحدود وكأنه يبغي العودة إلى سديم البدايات، إلى ما قبل الكلام، إلى لغة تبني مفرداتها الخاصة، وتبني زمنها الخاص، وتمسك بلحظات محددة وتقدمه مشروطة بالعودة إلى بدايات مفتوحة على نهاياتها، وإلى نهايات مشرعة على بداياتها، إنه العود الأبدي واللغة الأبدية.
أعمال ثروت سوز ليست من تلك الأعمال التي نتأملها فحسب، بل نصغي إليها أيضا وهي تبوح لنا بكل مكنوناتها وتتطلع إلى آفاق جديدة مغايرة. تبوح لنا عن كل ما يخص المشهد وفاعليته، فقيمها التعبيرية نابعة منها، ترويها لنا مأخوذة بالتشكل وفق متطلبات توجهها الدرامي ونسقه، ترويها لنا لا بوصفها محكومة بنوع من الطموح يهفو إلى الارتقاء بمشهديته إلى الذرى، ولا بوصفها محاطة بخبايا الظاهر المدروس وتحولها إلى داخل المسار الذي تسلكها وتقوم بفهمها وتقييمها، بل بوصفها تبدلات لحالات كانت لحظات التقاط قوانينها واستقراء رموزها وكيفية توظيفها في المشهد ذاته، فسوز ينتقل من الوصف إلى الكشف مبرزاً ذلك التبدل الذي يجعل من تجربته محاولات انقلابية على السائد.
وليس من السهل أن يحقق الفنان مآربه الفنية ما لم تتمثل وراءه عناصر أساسية تحقق مراده مهما كانت اللحظات التاريخية حينها صاخبة، وفي مدى المعرفة فسوز يظل دائماً في حالة الكشف بالمعنى الذي لا يخلو من تأكيد الحضور اللاحق على مستوى الإضافة خصوصاً، مستوعباً صفات اختزالها في مدلولها الواسع، دون أن تنفي عنها خصائص المغايرة والمباينة، ولولا أنه يمارس الإحياء هنا بمعناه الانفتاحي على الثقافات التشكيلية الغربية منها والشرقية، وعلى تجارب فحول الفنانين التشكيليين لما استطاع أن يمتطي حصان الريادة في التعبيرية المعاصرة، ويصهل مع حصانه معزوفتها في عموم كردستان، ويقتحم عوالمها بطريقة أقل ما يمكن وصفها بالمختلف من منظور فني جمالي لهذا الفن الجديد الذي اشتغل عليه حتى كان له صهيله الخاص الذي جعل من تجربته بعثاً للجدية الحقة وإضافة مغايرة بها تأثر فنانون كثيرون وإليها ينجذبون، إلى درجة أن المقولات المعرفية والجمالية لمشاهده لم تعد ملاحظات خاطفة بالنسبة إليهم، بل ركائز لتقنيات حقيقية ساهمت في تأسيس جمالياتها والبحث لا على التجانس معها بل البناء عليها وتجاوزها.
وينبغي على إبداعاتنا الناضجة والجادة أن تهتم بهكذا تجارب غنية بإنجازاتها وعظيمة في قدرتها على توالدها وتفاعلاتها، فالإمكانات هنا عالية، بلغتها وأدواتها، وبعمق بحارها التي تفتح الأمل في الغوص فيها وقطف لآلئها.