الكتابة بالعامية تواصل التطاول على رصانة الفصحى

الخوف مشروع من غول العامية على الفصحى وجمالياتها.
الاثنين 2022/02/21
لغة تنجب أخرى (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

الجدل مستمر بين العامية والعربية الفصحى في عالم الفن والأدب، فاستخدام الألفاظ العامية يراه البعض تهديدا للفصحى وعدم احترام للتراث، فيما يذهب آخرون إلى أنه تجديد وتطور وإثراء للغة الفصيحة، وإن كان هذا الجدل متجاوزا نوعا ما بالنظر إلى النص ككل، إما عاميا وإما فصيحا، إذ لا يتجاوز استخدام لغة في الأخرى السليلة منها مجال التطعيم، فإن الجدل الأكبر هو “ترجمة” كتب من مآثر الأدب العربي على غرار “رسالة الغفران” من الفصحى إلى العامية، فعل يقول عنه أصحابه إنه ترجمة، بينما يراه الكثيرون مجرد تشويه.

هل بدأت اللغة الفصحى تفقد ما كانت تتمتع به من وجاهة وعلو في المقام لتترك مكانتها للغات عامية ودارجة في العالم العربي؟

سؤال يفرض نفسه أمام تنامي ظاهرة انتشار مؤلفات مكتوبة باللغات العامية كما يلحظ المتجول في أروقة معارض الكتب على امتداد المنطقة العربية أو حتى خارجها من تلك المهتمة بالكتاب العربي.

ظاهرة خطيرة

إعادة كتابة أمهات الكتب والمراجع والروايات العالمية إلى العامية ينبغي التوقف عندها لما لها من خطورة

يبدو الموضوع قديما ويتجدد في كل مرة، دون أن يهدأ السجال بين دعاة الكتابة بالعامية وأنصار الفصحى منذ ستينات القرن الماضي وما علق بها من موجات أيديولوجية وحساسيات سياسية، حتى أن بعضهم مسك العصا من الوسط ودعا إلى تطعيم الفصحى بمفردات عامية مثل محمود تيمور.

وفي هذا الطرح دعا الأديب المصري إلى التنقيب عن الكلمات العامية ذات الأصل الفصيح والتي يأنف الكتاب والأدباء من وضعها جنبا إلى جنب مع الكلمات العربية الفصحى، لا لشيء إلا لأن العامة قد استعملوها وجرت على ألسنتهم في الشوارع والبيوت. ماذا يحدث مثلا لو أنك وجدت وأنت تقرأ أحد كتب طه حسين كلمة “بصبص” أو “تشعبط” ما الذي يحدث؟ لا ينبغي أن يحدث شيء. فبصبص أصلها عربي تماما مثل تغزل أو ربما تكون أقدم منها أصلا.

المسألة لا تتوقف عند هذا التوجه أو ذاك بالنسبة إلى المؤلفات الأدبية والدرامية التي سبقتها في الحسم لصالح العامية، وباتت الفصحى تختصر على بعض الأعمال التاريخية والوثائقية بل طالت اللغة العامية التي تبحث في سير المشاهير مثل أفلام يوسف شاهين عن ابن رشد ونابليون والنبي يوسف وغيرها، لكن أن يصل الأمر إلى إعادة كتابة أمهات الكتب والمراجع والروايات العالمية إلى العامية فهذا أمر آخر، وينبغي التوقف عنده لما له من “خطورة” بمعنى الأهمية وقوة التأثير، وليس فقط الضرر من حيث التقييم.

وصل الأمر في هذه الظاهرة إلى درجة إعادة كتابة ما قيل ودوّن بالفصحى إلى اللغة الدارجة، وكأن الأمر يتعلق بلغة أخرى. وقد يصل الأمر إلى اعتماد مترجمين محترفين ومتخصصين في تحويل الفصحى إلى عامية. من يدري؟

ثمة دارجة تقدم أجناسا أدبية وفنية يستسيغها الناس، يتقبلونها بل ويفضلونها عن الفصحى مثل دبلجة أفلام ديزني إلى العامية المصرية كـ”الملك الأسد” الذي مزج ابن المقفع مع روائع شكسبير.

وما زلنا نقبل بشغف كبير على قراءة أشعار بيرم التونسي وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم بالعامية المصرية، وكذلك مظفر النواب بالعراقية، طلال حيدر باللبنانية وغيرهم من شعراء تونسيين وسوريين.

أما أن نقدم على قراءة “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، بالعامية المصرية فثمة ناقوس خطر يقرع على أكثر من اتجاه: الخوف على مثل هذه الآثار الأدبية من التآكل والاندثار من جهة، والخوف من غول العامية على الفصحى وجمالياتها الأدبية والبلاغية من جهة ثانية.

تشويه المعري

ناريمان الشملي حوّلت نص أبي علاء المعري إلى حكاية تتسم بأسلوب مبسط جدا

الكاتبة المصرية ناريمان الشملي قالت إنها كلما همت بقراءة كتاب “رسالة الغفران”، تركته من دون أن تفهمه، فكان قرارها بتحويله إلى نص مفهوم.

يفقد النص التاريخي في هذه الطبعة الكثير من زخمه وثقله اللغويين بعد صياغة الشاملي له، إذ قامت بتحويل نص أبي علاء المعري إلى حكاية تتسم بأسلوب مبسط جدا.

وتؤكد صاحبة الكتاب أنها أرادت أن تقدم النص مترجما إلى العامية المصرية الخاصة بـ”المتنورين”. وتقول “كلام الناس اللي مش متعلمين أوي، أو كلام الناس براحتها.. تحسوا حدّ من أهلكو بيحكلكو موقف حصل معاه، من غير أي تعقيد أو تكلف”.

كل قراء الكتاب يتفقون على أن النص الأصلي يعتمد على قوة الخيال، وجماليات الشعر، إذ يلجأ المعري للتعبير عن الجمال عبر أبيات الشعر، نظرا إلى هوسه البلاغي كشاعر، ولكونه ضريرا يتذوق الدنيا عبر السمع لا النظر.

حين يصف الكتاب لقاء ابن القارح مع حبيبته، التي خرجت له من ثمرة شجرة في الجنة. يتحرك العاشقان بين جبال الجنة، التي تفوح منها روائح المسك والعنبر، ليصف المعري هذا المشهد، في النص الأصلي، مستشهدا بأبيات لامرئ القيس.

أما “المترجمة المصرية” فتكتب الموقف نفسه من خلال سرده بلا ذكر للأبيات من الأساس. “شكلك عايز تقلد امرئ القيس اللي وصف نفسه وحبيبته وهم ماشيين بيحبوا في بعض”. كما تورد الشاملي رد ابن القارح هكذا “يا بنت الذين! عرفتي منين إن أنا فعلا كنت عايز أعمل كدا؟”.

كما تحوّل “المترجمة” الشعر إلى كلام عامي، من دون ضبط الإيقاع، مكتفية بضبط قوافي الأبيات فحسب، بحسب النقاد الذين اعترضوا على هذه الخطوة، ورأوا فيها تشويها لتراث المعري.

تطاول العامية

Thumbnail

لنمض أبعد من الدارجة المصرية التي اعتادتها الأذن العربية واستأنستها في الشعر والغناء والحوارات الدرامية والقفشات الكوميدية، ونتوقف عند ما قد يكون أكثر غرابة من ترجمة المعري إلى العامية المصرية، وهو تحويل البيان الشيوعي العالمي إلى العامية التونسية، وكذلك بعض كتابات ماركس وأنجلس ولينين من طرف يساريين من حركة “آفاق” التونسية التي نشطت في سبعينات القرن الماضي، وخرج من رحمها الكثير من الكتاب والفنانين.

أقبل تونسيون كثر على هذا الكتاب الذي أثار أيضا بعض السخرية والتندر، ذلك أن خروجه من منبرية الفصحى وصرامتها، يجعله أقرب إلى حكايات المقاهي فيفقده الكثير من الجدية والرصانة.

أصل الحكاية، كما جاء في مقدمة الكتاب أنه وفي عام 1969 كان المناضل الماركسي الهاشمي الطرودي وهو خريج جامعة الزيتونة المختص في الفقه، اعتنق المذهب الماركسي، ويعتبر أن الماركسية ليست متناقضة مع الدين وفق ما روجه بعض الرجعيين ممن يقولون إن ماركس ضد الإسلام، معتمدين على جملة كتبها ماركس وهي “الدين أفيون الشعب” لكنه يقصد التفسير الخاطئ الذي يستخدمه السياسيون لتخدير شعوبهم.

عهد الطرودي إلى تلميذيه النجيبين وهما الشاعر عمار منصور والباحث عبدالكريم قابوس بتحويل هذا البيان من اللغة العربية الفصحى إلى العامية التونسية كي تعم الفائدة في الوسط العمالي. وكان هذا المناضل اليساري يطمح أن تتحول حركة “آفاق” الماركسية من مجموعة دراسات إلى حزب يتغلغل في الوسط العمالي وجاءته الفكرة التي انتظرت إلى عام 2018 حيث احتفل العالم بمناسبة مرور 170 عاما على صدور البيان الشيوعي ومرور 200 عام على ميلاد كارل ماركس.

كان هذان نموذجان لـ”تطاول” العامية على “وقار” الفصحى، لكن ثمة من يرى في ذلك رفعا من شأن العامية، وليس حطا من الفصحى.

لكن الجدال يبقى مستمرّا في الأوساط الأدبية والفنية بين مناصري العربية الفصحى من جهة ودعاة استعمال العاميّة “الدارجة” من جهة أخرى.

13