الكاريكاتير السياسي محاصر بتحديات إضافية مع صعود اليمين المتطرف

تواجه رسوم الكاريكاتير الساخرة وخصوصا السياسية حملات عنيفة تجاوزت حدود الدول الشمولية، وامتدت إلى الدول الديمقراطية بتأثير التغيرات السياسية وصعود أحزاب اليمين المتطرف وضغوط ممولي الصحف، لكن تأثيرها لن يتوقف مع انتشارها الواسع على مواقع التواصل.
شهدت وسائل الإعلام التقليدية انصرافا ممنهجا عن الكاريكاتير السياسي، الذي صار أكثر تأثيرا في الجمهور، رغم تراجع الدور الكلي للصحف الورقية والإلكترونية، حيث باتت رسوم الكاريكاتير مزعجة، وعصية على الاحتمال حتى في الدول التي لديها تراكمات في موروث حرية التعبير وحُب السخرية.
وقالت فنانة الكاريكاتير المصرية دعاء العدل، التي نالت مؤخرا جائزة “إيفيكو” العالمية للكاريكاتير لعام 2020، إن “هناك موجات موجهة في كثير من دول العالم لتحجيم الكاريكاتير، والحد من تأثيره في المجتمع، وبعض المُجتمعات التي كانت تتبنى قيم الحرية والديمقراطية لم تعد تحتمل قسوة الفن الساخر، وتلجأ لتبريرات مغلوطة لتنحيته من الصحافة”.
لكن العدل أكدت في تصريحات لـ”العرب” أن “الكاريكاتير باق ومؤثر، بل وشديد التأثير في ظل عمليات استقطاب فكري متبادلة داخل كافة المجتمعات بلا استثناء”.
وفازت العدل بالجائزة التي تمنحها جمعية “إيفيكو” بالتعاون مع مجلة “داغينس آربيتيه” الفنية تخليدا لذكرى الرسام السويدي تإيفيرت كارلسون، والمعروف باسم إيفيكو، واختير لعدة مرات كأفضل رسام كاريكاتير سياسي في العالم، ومنحت الجائزة من قبل لفنانين كبار، مثل تشارلي كريستنسن وجوناثان شابيرو وسارا غرانير، تقديرا لسعيهم لنقد الظلم والدفاع عن الحرية.
وبدأت العدل العمل في صحيفة “المصري اليوم” المستقلة منذ 13 عاما، التي تنشر رسومها يوميا وحازت على جوائز محلية ودولية في فن الرسومات الساخرة، أبرزها جائزة “الكاريكاتير من أجل السلام” عام 2014، وتسلمتها من الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان.
ويربط كثيرون بين الصعود الكبير لليمين المتطرف وبين رفض الحكومات لفن الكاريكاتير السياسي، لدرجة دفعت جريدة عريقة مثل “نيويورك تايمز” لأن تخضع لضغوط عنيفة من جهات عدة ضد رسم ساخر لفنان برتغالي انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتُقرر فجأة وقف نشر الكاريكاتير السياسي، الذي كان يميزها.
ووصلت المواجهة مع فن الكاريكاتير إلى حد التصفية الجسدية، مثلما حدث من قبل مع رسامي مجلة “شارل إبدو” الفرنسية، أدى إلى حالة من التنكر لهذا الفن من بعض المفترض دفاعهم عنه من ملاك صحف ورؤساء تحرير.
ويعود جانب من العداء تجاه الكاريكاتير إلى أنه فن صحافي له تأثير بالغ العمق في المُجتمعات، وأفلت من موجة أفول الصحافة الورقية بالتأقلم السريع مع الصحافة الإلكترونية، وتمكنه من الاستفادة المُثلى من ميلاد وتطور مواقع التواصل الاجتماعي.
وتجاوزت الحملات العنيفة ضد الرسوم الساخرة في العالم حدود الدول الشمولية، وامتدت إلى الدول الديمقراطية لتكشف تهاوي حرية التعبير فيها تحت ضغوط ممولي الصُحف والتيارات المُهيمنة وكافة أشكال اللوبي السياسي المُتغلغلة فيها.
وفسّرت العدل ذلك بأن الرسم “يبقى كوثيقة أكثر خلودا من المقالات السياسية النقدية، إذ تنغرس في مخيلة الإنسان صور السخرية من شخوص بأعينهم لتبقى مُنطبعة وماثلة فيها لفترات أطول”.
ويكمن سر تأثير الكاريكاتير وقوته في ما يحمله من مبالغات تُضفي حالة اختلاف لافتة للأنظار وجاذبة للعين، ولا يحتاج الرسم أي لغة ناقلة يفهمها المتلقي، كما هو الحال مع المقال النقدي أو الخطاب الصوتي.
وتبشر بعض الأحزاب والتيارات اليمينية الصاعدة في الدول الغربية بالديمقراطية وحرية التعبير في خطابها، وتُصر على ألا يتم استخدامها في مقاومة اتساعها أو عدوانها على الآخر.
وأصبحت غالبية المجتمعات التي تعلو فيها صيحات الشعبوية، وتتمدد فيها تيارات التعصب، وتُبدي مواقف عدائية من الآخر، لا تتحمل فن الكاريكاتير.
وشددت العدل على رؤى وتصورات تلك المجتمعات بشأن حرية الصحافة والتعبير وتقبل النقد في ظل موجة ارتداد غريبة تُصاحب تقدمها، والغريب أن مالكي الصحف هم أيضا يتراجعون أمام أي تهديدات تحمل لهم الخسارة المالية، ويقبلون بالعودة خطوات إلى الوراء.
وأكدت أن بعض المجتمعات الأوروبية على سبيل المثال أصبحت في صراع حاد لا يكاد ينقطع بين العنصرية والتطرف، وصار لزاما عليها أن توقف السخرية وتخنق حرية التعبير، فالعالم الذي كان يرفع ويتباهى بشعارات الديمقراطية وتقبل الآخر والتسامح والمساواة، لم يعد كذلك.
كان فن الكاريكاتير في الماضي موصولا بالنخبة، وشبه منزو عن العامة، ويقتصر تأثيره على قراء الصحف الورقية، وعلى كثرتهم في عصور المبيعات العالية للصحف لا يشكلون القطاع الأكبر من المجتمع، غير أنه الآن صار مُنفتحا بشكل أكبر، بفضل مواقع التواصل، وصارت الرسوم الساخرة تنتقل من شخص لآخر بسرعة عبر هاتفه أو حسابه الشخصي.
ولم يعد غريبا أن يرى الكثير من مُتخذي القرار والمسؤولين ورجال الدين والمجتمع فن الكاريكاتير “فنا منفلتا”، يهز من جدران الهيبة المفترضة لهم، ويخلط جوانب الهزل بالجد في قضايا شديدة الأهمية، والأولى به التجمد أو الخروج من الساحة تماما.
وأضافت العدل، من واقع خبرتها، أن رسام الكاريكاتير الأكثر تأثيرا هو المستقل تماما عن كل تيار وكل فكر ولا ينتمي لحزب بعينه، ولا يؤمن بمسلمات أيديولوجية، ولا هو مع السلطة ولا مع المعارضة، وعينه دائما على الناس وحدهم، ترقب ما يهمهم، وتُفتش في ما يُفكرون، وتستنطق وجوههم، لتُعيد بث الوجع بشكل ساخر يبعث على الابتسام.
وقدمت العدل خلال مشوارها المهني رسومات جريئة وذكية وجميلة، تتجاوز المحرمات، وتكسر حدود المألوف لتُبشر بمصداقية وموهبة حقيقية، وتعبر عن آلام مُجتمعية عميقة، تثبت أن هناك فرصا لتمرير رسومات تُعبر عن هموم الإنسان، وليس شرطا أن تكون الهموم سياسية، وهو ما يجعلها أداة تأثير بالغة الأهمية.
وقدمت رسومات عديدة ترفض تهميش النساء، وتقليص أدوارهن في الحياة، والاعتداء على حرياتهن، وكانت أكثر فناني جيلها نقدا لظاهرة ختان الإناث وإجبار البنات الأطفال على الزواج والتحرش بالأنثى.
ولفتت العدل إلى أنها ترسم قناعاتها وما تؤمن به من أفكار، ولا تهتم مطلقا بالنتائج، إيمانا بأن دور الفنان هو الإبداع ولا شيء آخر.
ولا يعني قدوم فتاة من بلد عربي شعورها بالخوف من نقد السلطة والمجتمع وظواهره السلبية، لأن ارتفاع الحواجز يُغري بتجاوزها، فالفن ينتعش ويزداد حيوية وسعيا للمواجهة كلما ازدادت اللاءات وتعددت الممنوعات أمامه.