الكاتب وعصره

ليس من مبدع، في الماضي أو الحاضر، في الثقافة العربية أو الثقافات الأخرى، حقق حضوره الثقافي بالقطيعة، سواء كانت هذه القطيعة، عن الإرث الثقافي أم عن الحاضر، حيث الزمن الثقافي الذي يعيش معطياته، متأثرا بها وقد يكون مؤثرا فيها، وليس من مبدع استمر حضوره الإبداعي إلى الأجيال القادمة، لم يكن قد أسس حضوره في عصره، ليكتشف في الآتي من الأيام.
رغم أن القول بالكتابة للأجيال القادمة، نستمع إليه ونقرأه بين حين وآخر، وهو قول يصدر عن الكثيرين ممن لم تتح لهم فرص التفاعل مع المحيط الثقافي في زمنهم.
نعم.. إن كثيرين تتجدد قراءات ما أبدعوا، بتجدد الأزمنة الثقافية، ولكن الذين تتجدد قراءات ما أبدعوا، لا بد وأنهم كانوا قد عبروا بعمق عن زمنهم الثقافي وأسسوا حضورهم الإبداعي فيه، وهؤلاء ممن تمثلوا الماضي وأدركوا متغيرات الحاضر وعبروا عنها، بما يجعل إبداعهم إضافة إلى الماضي وتعبيرا عن حاضرهم.
إن معظم الذين يدَّعون أنهم يكتبون لقراء المستقبل، يحاولون الهروب من إحساس بعدم التواصل مع محيط زمنهم الثقافي، وإلاِ من أين لهم حق مصادرة توجهات القراء في المستقبل؟ حيث لكل زمن ثقافي توجهات قرائه، وإن التحولات الإبداعية، ما كانت ولن تكون مجرد طفرات يمثلها أفراد، خارج عوامل التحولات الإجتماعية.
إن المتغيرات الإبداعية، من نتائج المتغبرات الإجتماعية، سواء جاءت معها أو سبقتها، ولذلك فهي نتيجة وعي التغيير وهذا الوعي نتيجة حوار اجتماعي وثقافي، ومن ثم حوار بين الإبداع والمتلقي، ولا أستثني مواقف رفض التغيير في هذا الحوار، فرفض ماهو جديد، يعبر عن وعي ما، لم يصل إلى إدراك جوهر المتغيرات الاجتماعية ونتائجها الثقافية.
إن رفض التحولات الإبداعية بالحوار، حتى وإن كان الطرف الرافض يصدر في موقفه عن وعي ماضوي، فهذا الحوار يحررها من العزلة والقطيعة ويضعها في منطقة التواصل بين الماضي والحاضر، والإبداع الذي يحقق هذا التواصل، هو المرشح لتحقيق تواصل بين حاضره والمستقبل، بين زمنه الثقافي وزمن ثقافي سيأتي، وهو “الذي يولد من جديد ويتجدد، كلما لمسه وجدان قارئ من جيل جديد” حسب مقولة بول أوستر.
يقول الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي “تزعجني عجرفة الكتاب الذين يعتقدون أنهم يكتبون للأجيال المقبلة، ويا له من ادعاء مثير للسخرية! رينيه شار لم يفكر أن يكتب للأجيال المقبلة ولا كافكا ولا كونراد، إن هذا النمط من التفكير يسيء إلى مستوى الكتابة”.
ورغم أن هذا الاعتقاد، اعتقاد الكتابة للأجيال المقبلة، ما كان مجرد عجرفة، كما قال أنطونيو تابوكي بل هو بالإضافة إلى ما قلت من قبل، إنه يصدر عن إحساس بعدم التواصل مع الزمن الثقافي لقائله، فهو نوع من الوهم أيضا، وهو ارتباك في الوعي، حيث يعزل المتغير الثقافي عن المتغير الاجتماعي، وهو نوع من الخيال المشوش، بل هو محاولة للسطو على المستقبل وعلى تجليات الإبداع فيه، وعلى وعي مبدعيه وحقوقه.
إن المختبر الذي تتشكّل فيه الكتابة، لن يخضع لتصورات ذاتية، وكذلك هو التواصل الثقافي مع الماضي ومع المستقبل، لن تتحقق فاعليته إلاّ بإدراك متغيرات الحاضر، ومن السذاجة أن يتعامل المبدع مع أي زمن ثقافي، كما يتعامل مع طعام لا يحبه أو يخشاه كما توهمت ذلك الشاعرة الأميركية ريتا دوف في قولها “لا أقرأ معاصريّ، وهم مثلي يبحثون عن طرق تفادي الواحد منا الآخر، كي لا أقول- قتل- الواحد منا الآخر، لذلك أفضل أن أقرأ الكلاسيكيين، لأن من الأسهل أن أجتنب تأثيراتهم”.
فليس المبدع الحقيقي رخوا إلى الحد الذي يتفادى قراءة معاصريه خشية تأثيراتهم فيه.