الكاتبة والطبيبة السورية بهية كحيل: كل ما كتبت وأكتب هو أرشيف مدينتي

الزمن الذي نعيش فيه يحتاج كتابة جديدة تشبهه.
السبت 2024/08/10
الكتابة بالنسبة إليّ خلاص روحي

الكتابة ليست فقط مجرد تصعيد نفسي ذاتي أو متعة شخصية مشحونة بالهذيانات بأسلوب جميل، إنها أوسع من ذلك بكثير، فعل إنساني بامتياز في انتصاره للإنسان وآلامه وأحلامه، وتشابك مع أعقد قضاياه. وهذا ما تعيه جيدا الكاتبة السورية بهية كحيل. “العرب” كان لها معها هذا الحوار حول تجربتها.

حوارنا اليوم مع الروائية والطبيبة السورية بهية كحيل له طعم ونكهة خاصة، حيث تجمع بين عالم الأدب والطب، وهو مزيج فريد يمنحها رؤية عميقة وشاملة للحياة، إذ نتطرق معها إلى تأثير مسيرتها بصفتها طبيبة على كتاباتها الأدبية، والعكس.

تسأل “العرب” كحيل بداية كيف توفق بين إبداعها الأدبي، وعملها كطبيبة أسنان، تقول “ذات يوم تم قبولي في كلية طب الأسنان إلا أن دراسة الأدب العربي كانت حلمي وكلية الآداب كانت مبتغاي، لكن شاء القدر بضغط من الأهل أن أتابع دراستي الطبية، ولكن هذا لم يمنعني من السعي نحو حلمي الجميل”.

الكتابة رسالة

g

تقول “في ما بعد آلمتني الحياة بما يكفي، وتجرعت كأس الخيبة المرة، فأجهدت جسدي بالعمل، فكان نهاري عملا في العيادة، وكان ليلي كتابة لأولئك الذين يشبهونني والذين أصابهم وجع إنساني دفعوا ثمنه باهظا من ألق حياتهم ومسراتها، فأنا رفيقة الفقراء والمظلومين والمضطهدين، أسمع هسيس أرواحهم، أشعر أنني معنية بآلامهم، بوجعهم الإنساني”.

نتطرق مع كحيل عن روايتها “كمنديل في الريح” التي ترصد فيها معاناة المجتمع السوري وما تسببت به الحرب من موت وآلام وحالات لجوء وغربة عن الوطن، ونسألها عن الرسالة التي أرادت إيصالها للقراء.

تقول “إن الصراع داخل سوريا تحول إلى صراع بين الناس وعليهم، فالكل حزين ووحيد مثل الليل، والباب المغلق هو بوابة قبر وفكرة موت، فهناك من فقد منزلا، من فقد عزيزا، من فقد عضوا في جسده، وهناك من نزح إلى ذل المنافي، أو هام في البلاد باحثا عن المأوى، وفرصة العمل، ولقمة العيش، الكل سقط في عجز وذهول وفقر، والحرب على مدى ثلاثة عشر عاما أخرجت أسوأ ما في نفوسنا، فكانت سنوات الفرز الكبرى التي كشفت حقائق النفوس، وأظهرت العورات الفكرية والأخلاقية والنفسية التي كانت كامنة في مجتمعنا بأسوأ صورها وأكثرها بشاعة”.

وعن سبب التزامها بكتابة القصة القصيرة والرواية وليس جنسا أدبيا آخر، تجيبنا “لأنها ببساطة هي المكان الأرحب للتعبير، فالكتابة بالنسبة إليّ هي خلاص روحي، هي نبش ما يؤلمني ما فاق قدرتي على التحمل، فأنا مؤرخة للحظة على طريقتي، ومن منظوري، شاهدة على عصري، فأردت ألا أكون شاهدة زاهدة، أو شاهدة محايدة، فكتبت هذه الشهادة بكل أمانة، وأشعر أنني صنعت سجلا إنسانيا لمأساة مدينة تغتال على مرأى، ومسمع من العالم الذي أثبت أنه بعيد عن الإنسانية والمدنية التي يتغنى بها”.

الكاتبة مؤرخة للحظة على طريقتها ومن منظورها وشاهدة على عصرها لذا أرادت ألا تكون شاهدة زاهدة أو محايدة

وحول اقتحام مجالي القصة والرواية الذي يعتبر مغامرة كبيرة، تقول الكاتبة والطبيبة السورية “لم أشعر أن الأمر مغامرة، بل كان واجبا وضرورة ملحة، فهي صرخة يائسة من داخل هذا الكابوس، بوق استغاثة في الصحراء الكونية الشاملة، أطلقها من قاع محنتنا السوداء في عشرية سوداء كي أنقل التجارب الإنسانية التي عاينتها عن كثب، ولأقول أيضا إننا عزّل ووحيدون، عاجزون بلا أمل، أو مخرج، فكُلُّ ما كتبت وأكتب هو أرشيف مدينة مغتالة على مذبح الشرعية الدولية، هو رسالة خائف يتسكع في ظلمات كوكب الخوف. الخوف من الحياة، والخوف من فقدانها، فجاء اقتحام الرواية لطرح كل تلك القضايا الساخنة، ودفع القارئ إلى الوعي بقضيتنا ومأساتنا”.

وحول تراجع فن القصة أمام الحضور الكبير للرواية من وجهة نظرها، تقول كحيل “الرواية كجنس أدبي هي الأهم والأبقى، هي تجارب الحياة بين دفتي كتاب، تحفز خيال القارئ وتحكي تفاصيل بشكل أوسع وأعمق وأرحب، وهي قادرة على رسم صورة شاملة للحياة، قادرة على نقل الإرث المعرفي للشعوب، فهي نص طويل يلم بكافة التفاصيل، أما القصة القصيرة فتتناول حدثا واحدا، وهي غير قادرة على استيعاب الأحداث الكبيرة، وما الرواية إلا مجموعة من القصص القصيرة والمواضيع والشخصيات توثق تاريخا معينا وأحداثا كثيرة، فالقصة تحكي أما الرواية فتروي. أرى فعلا أن الرواية في ازدهار، ولكن هذا لا ينفي وجود القصة القصيرة كقيمة أدبية لها رموزها”.

تسألها “العرب” كيف تعالج الفكرة والأسلوب في الرواية، فتجيبنا “في الكتابة تسيطر الفكرة على تفكيري، فأضع تصورا عاما ثم أبدأ بالكتابة، فتأتي الأحداث والشخصيات نتيجة التفاعل مع الأفكار داخل عقلي وروحي، فالألم الذي انتابني، وأنا أرى مأساة وطني الجريح، وتغريبته القاسية هو الذي شكل لديّ هاجسا أوليا، ودفعني لأمسك القلم وأكتب، أما العناوين التفصيلية فتكون إشارات في مراحل الحدث توائم حركة الشخصيات، وترسم مرحلة المأساة بين اندلاع الأحداث، النزوح، اللجوء، الموت،، روايتي تشبه الزمن الذي نعيش فيه حيث حدث يسلمنا الى حدث، ومأساة تتلو أخرى في مدينة تبتلع أبناءها، وتهترئ بعاصفة جنون سمّها ما شئت، فالكتابة لديّ هاجس روح، والفكرة عندي لها حرية الحركة والتشكيل”.

الأدب والمكان

f

نتطرق مع بهية كحيل إلى مدى تفاعلها مع تيارات الحداثة في ما تكتبه، تقول “إذا كانت الحداثة وما بعد الحداثة قد عكست المفهوم المادي للحياة وذهبت بالرواية إلى التشظي والتفتيت والتفكيك على مستوى البناء الدرامي، فأفقدتها مفهوم الحبكة بمعناها التقليدي، وباتت مفتوحة على إمكانات تشكيلية لا حد لها، فإنني أرى أن الزمن الذي نعيش فيه يحتاج كتابة جديدة تشبهه، تقترب من روح الإنسان، وتتوغل في تفاصيل حياته ومعاناته الداخلية، فالحرب أقسى تجربة يمكن أن يمر بها الإنسان”.

وتتابع “أنا أرصد في كتاباتي انعكاس الحرب والحصار والغياب على الشخصيات التي تبحث عن ملاذ ومخرج، لست في حاجة إلى تطعيم كتاباتي بالقليل من البعد الغيبي، فنحن في زمن الهزيمة وأنا واقعية إلى أقصى الحدود فلا رموز تتخاصم كما يتخاصم الواقع مع الأسطورة، فالابتكار ضروري بما يناسب المرحلة سواء في الصياغة، أو بالسرد، والواقع مليء بما هو أغرب من أيّ خيال، صحيح أنني معجبة بجبران خليل جبران رائد الحداثة والمتمرد الأول في العصر الحديث، ولكنني لا أحبذ الاستغراق في الرموز والأوهام، فالحياة مليئة بكل معاني القسوة والفزع والخذلان فأنا أكتب لأنجو، أكتب لأمارس حريتي، ولأقاوم السقوط في زمن الانهيارات والهزائم المتتالية”.

وحول مجموعتها القصصية “للوداع طقوس” والإضافة الفنية التي شكلتها تلك المجموعة من وجهة نظر الكاتبة، تقول “للوداع طقوس هي ملامسة لجراح المجتمع، محاولة أولى للكتابة في أولى سنوات الحرب، كانت منفذا للهروب من واقع مؤلم بدأ يفرض ظلاله القاتمة، تجربة مبكرة وبوح فج لكنه كان ضروريا فالخطوات الأولى وإن كانت مرتبكة فهي ضرورية لطريق الألف ميل، كتاباتي السابقة هي حجر الأساس للاحقة منها، ودائما الأولوية لديّ لهذا الكم الهائل من الوجع الإنساني، وكل المعاني التي تدور في فلكه فلا نيرون روما، ولا نازية هتلر، لا المغول ولا التتار، ولا كل حرائق التاريخ تشبه ما تمر به سوريا، فبتنا نحلم بالسلامة أولا، وبالسلام ثانيا”.

بهية كحيل ترى أنها كاتبة واقعية إلى أقصى الحدود فلا رموز تتخاصم عندها كما يتخاصم الواقع مع الأسطورة

ولما سألناها عن ارتباطها بالمكان وأثره على كتاباتها تجيب بهية كحيل “المكان ذاكرة حية. جزء من الوجود ماضيا وحاضرا ومستقبلا، واغتياله هو تحالف مع الموت ونصرة له، وهنا تلعب الذاكرة دورها في احتضان رائحة الأماكن، فلكل حكاية مكان وأنا من أكثر الناس انتماء وعشقا لمدينتي”.

وتضيف “تألمت جدا لما يجري في حاراتها، أسواقها، خاناتها، ميادينها، ساحاتها، أماكنها الحميمة، حجارتها الدافئة، قلعتها، جامعها الكبير، أصابني هوس في تتبع آثار الحرب في الحجر، فبدت الأماكن المهدمة أكثر نطقا من أيّ خطاب، فلهذه البيوت التي تبدو فارغة، ومهجورة قاطنون غادروها طوعا، وربما غصبا تاركين صورا على الحيطان، وتذكارات في الزوايا، أو ربما بقوا خامدين تحت ركامها، أماكن بدت مثل أشباح شاهدة على ذاكرة الحرب بعد أن كانت تعج بالحياة، يجلد روحي كل يوم دمار أماكن ورحيل أحبة”.

12