الكاتبة التونسية آمنة الرميلي: دائما أكتب وممحاة في يدي

تكتفي التقارير الصحافية بنقل الأخبار فيما يغوص الأدب في ما خلف الخبر، مفككا الخلفيات والمآلات، فالكثير من الروايات تنطلق من أحداث واقعية ولكنها تكشف عبر لعبة الخيال التي يتقنها الكتّاب خفايا أخرى تعيد تفكيك نظرتنا إلى الواقع والوقائع وتركيبها، وهذا ما نجحت فيه رواية “شط الأرواح” للكاتبة التونسية آمنة الرميلي.
احتضن مركز الفنون الدرامية والركحية بمحافظة سليانة التونسية أخيرا حلقة جديدة من تظاهرة “أنا كاتب” التي دأب من خلالها على استضافة أهم الروائيين التونسيين لتقديم آخر أعمالهم، في إيمان بالعلاقة الوثيقة بين المسرح والأدب، وخاصة الرواية.
الحلقة الجديدة الرابعة استضافت الروائية التونسية آمنة الرميلي وروايتها “شط الأرواح”، التي لاقت منذ صدورها السنة الماضية نجاحا لافتا، سواء على مستوى تتويجها بجائزة الكريديف أو تناولها في الكثير من البحوث الجامعية والمقالات النقدية.

تجبرة مثيرة في رحلة استقصائية
رواية صحافية
تحكي رواية “شط الأرواح”، الصادرة عن منشورات محمد علي الحامي بتونس، قصة الصحافية باهية العمراني التي تخوض تجربة مثيرة في رحلتها الاستقصائية إلى مدينة جرجيس جنوب شرق تونس، لزيارة شط الأرواح، وهو في الحقيقة مقبرة للمجهولين من الغرقى المهاجرين السريين الذين يفتك بهم البحر ويبتلع أحلامهم ويتقيؤهم جثثا على شاطئ جرجيس.
وهذه المقبرة قام بإنشائها كهل متطوع في الهلال الأحمر التونسي اسمه خيرالدين المنسي، الذي سرعان ما تتوطد علاقته بباهية الصحافية، إثر محادثات على موقع فيسبوك، محادثات مليئة بقصص الغرقى التي تستغلها الصحافية في كتابة مقالاتها الأسبوعية والتي باتت الأكثر قراءة في الصحيفة التي تعمل بها.
الرواية ترويها باهية كراو عليم، ونكتشف لاحقا أن النص في نهاية الأمر هو لباهية التي تقرر أن تكتب رواية عن أهوال ما رأته وسمعته وعاشته في شط الأرواح، حيث تحتك بقصص المهاجرين وتدخل أجواء كابوسية، تعيد تفكيك ظاهرة الهجرة السرية من جذورها، فتطوف بنا مع شخصيات مهاجرين من سوريا وأفريقيا وتونس، شبابا ونساء، فتيات وأطفالا، أمهات وصبيانا، لكل منهم حكايته التي ترقى إلى مرتبة التراجيديا، أهوال من الاغتصاب إلى الاستعباد والتجارة بالأعضاء والقتل والإلقاء في البحر واختطاف الأطفال وغيرها مما لم يتحمل عقل باهية هوله، فألقى بها إلى الكوابيس.
تختلط في الرواية الكوابيس بالواقع، والخيال بالحقيقة، وهو ما لعبت عليه الرميلي، مؤكدة أن كتابة رواية في نهاية الأمر ما هي إلا نوع من اللعب.
إننا أمام بطلة استثنائية تقدمها الكاتبة لتكشف عن ظاهرة لطالما أرقت التونسيين والقارة الأفريقية ككل، ظاهرة أعمق من مجرد أنها هرب من الفقر، بل تتداخل فيها أسباب عديدة سياسية واجتماعية ودينية وعرقية وغيرها من ظروف معقدة تدفع الكثيرين إلى الإلقاء بأنفسهم إلى قوارب الموت حلما بضفة تحقق لهم إنسانيتهم.
رواية البحر

تظاهرة أنا كاتب ناقشت رواية "شط الأرواح" التي تثير قضية تراجيدية في المجتمع التونسي هي الهجرة السرية
في ردها حول سبب إقحامها للهجة الدارجة في خطابات بطلة روايتها باهية، عادت الرميلي لتستذكر حادثة طريفة وقعت لها في أولى رواياتها، حيث ناداها الناقد التونسي توفيق بكار، وطلب منها أن تحول خطاب إحدى شخصياتها إلى الدارجة، ليكون أكثر اتساقا وتناسقا معها. وهو نوع من الاختيار الفني.
وتبين الكاتبة أن كلام باهية بالدارجة في بعض الأحيان حاولت من خلاله إضفاء الصدق على شخصيتها، وبالتالي على واقعية الأحداث إذ كان القادح لكتابتها هذه الرواية حدثا حقيقيا.
وتذكر الرميلي أن فكرة الرواية انطلقت عندها من حكاية رجل تونسي اسمه شمس الدين مرزوق قام بإنشاء مقبرة للغرباء في مدينة جرجيس التونسية للغرقى من المهاجرين السريين الذين يلفظهم البحر على شاطئ المدينة التي تقع بالقرب من ليبيا ومن طريق قوارب الموت، وذكرت كيف التقت الرجل فعليا بعد كتابتها للرواية، التي اختارت أن يكون اسم بطلها قريبا من اسمه خيرالدين.
ورغم انطلاق الرميلي من قصة واقعية إلا أنها تشدد في النهاية على أن عملها خيالي بامتياز، ولا يرتهن إلى الواقع رغم أن القصة والمكان حقيقيان.
تقول الكاتبة “الكاتب يحتاج إلى القارئ، المحدد للنص المكتوب هو القارئ، فبداخلنا هناك قارئ ضمني كما يسميه أمبرتو إيكو، بعض الكتاب يدعون الكتابة لأنفسهم لكن هذا لا يستقيم، في الكتابة نحن ذاهبون إلى الآخر ولا نبقى فقط مع ذواتنا. في الكتابة أتمتع لأنني أخاطب آخر بالضرورة. ومن ناحية أخرى فعلى الكاتب ألا يتوقع أو ينتظر أن يصل نصه إلى كل القراء بالطريقة نفسها”.
تختلط في الرواية الكوابيس بالواقع، والخيال بالحقيقة، وهو ما لعبت عليه الرميلي، مؤكدة أن الكتابة نوع من اللعب
وتضيف أنه “في النهاية كل من يقدر على القراءة فهو قارئ. ومن ناحية أخرى أنا أرى الكتابة متعة، وأقيم النص غالبا من خلال المتعة التي يحققها لي كقارئة أولا، بقطع النظر عن الرؤية النقدية لاحقا، فإن أول ما يشدني إلى نص ما هو قدرته على انتشالي من الزمن الفيزيائي الذي نعيش فيه إلى عالم القصة. ‘شط الأرواح’ دخلت عدة مخابر جامعية واشتغل عليها الكثيرون، لكن تبقى متعتي الكبرى أن يتناولها القراء وتعجبهم مهما كانوا”.
وفي تعليق للكاتب صلاح برقاوي على الرواية اعتبر أن القارئ يخرج منها مصابا برضوض عميقة، وتؤكد الكاتبة ذلك، لافتة إلى أنها هي نفسها خرجت منها بعد كتابتها وكأنها مصابة برضوض. وتستذكر أن الكثير من القراء غيرت لهم الرواية علاقتهم بالبحر.
وتقول الرميلي إن الكاتب كائن شرير حين تقول له بكيت أو حزنت أو غيره فإنه يسعد، طبعا لا أقصد الشر في ذاته، فالكاتب كائن ذاهب إلى الآخر بالضرورة، الكتابة هي لحظة تداولية، وأنا دائما أكتب وممحاة في يدي، لأنني أخاف من القراء. رغم تعدد كتبي فإنني دائما أتساءل مع خروج كل نص لي كيف سيتقبله القارئ، لأن فعل الكتابة فيه نوع من العراء، وكأن دواخله لم تعد ملكه.
وذكرت الرميلي التقاطع الذي حدث بين روايتها والمسلسل التونسي “حرقة” الذي صور عوالم الهجرة السرية، وخاصة مشاهد الغرقى الذين يلفظهم البحر، واعتبرت أن هذا التقاطع أسعدها، معتبرة أنه تقاطع فني مدهش، في نوع من التناص. معتبرة الموضوع في النهاية متاحا المهم في النسج على رأي الجاحظ وطريقة الصياغة.