القيروان تحتفي بكاتبها الراحل صلاح الدين بوجاه

فقدت الساحة الأدبية والثقافية التونسية منذ أيام الكاتب والروائي صلاح الدين بوجاه عن سن ناهزت 65 عاما. وللمفارقة فقد كان مقررا تنظيم ندوة احتفائية بالكاتب في مدينته الأم القيروان، احتفاء به وبمنجزه، وهي الندوة التي شاء المنظمون أن يحافظوا على موعدها ووهجها الاحتفائي بنصوص الراحل.
القيروان (تونس) - شهدت مدينة القيروان التونسية يومي الجمعة والسبت الماضيين بالمركب الثقافي “أسد بن الفرات” فعاليات تكريم الأديب التونسي الراحل صلاح الدين بوجاه، والذي جمع بين الإنجاز الأكاديمي والروائي والنقدي، ما خوله ليحتل مكانة هامة من حيث اضطلاعه بتدريس الأدب العربي في جامعات تونسية وعربية وتحمّله مهام عمادة كلية الآداب بالقيروان ورئاسة اتحاد الكتاب التونسيين، إلى جانب إشرافه على تأطير العديد من الأطروحات الجامعية.
وقد خصّصت هذه الندوة المبرمجة قبل موت الفقيد بأشهر للاحتفاء بالمنجز السردي الإبداعي لبوجاه، الذي يعتبر علامة فارقة في السرديات العربية المعاصرة نظرا إلى غزارة ما أبدع، وأيضا لانتحائه سمة التجريب في أغلب كتاباته، لذلك فقد كان سرد بوجاه مركز القول في هذا التكريم تحت ثيمة “السارد الساحر”.
السرد المخاتل
افتتح اليوم الأول من الندوة بمعرض وثائقي يعرض مسيرة الراحل الإبداعية من خلال صور توثيقية وعرض لكل مؤلفاته السردية والنقدية، ثم استهل الإعلامي والباحث محمد المي المنسق العام لهذه التظاهرة كلمته بالثناء على خصال الراحل العلمية والأخلاقية والإنسانية واعتبره “صوت العقل والرصانة، عرف كيف يجمع الفرقاء ويوائم بين أصحاب المشارب المختلفة”.
وكُرّم الفقيد في شخص ابنه أيمن بإهدائه كتاب الندوة المعنون بـ”السارد الساحر”، الصادر ضمن سلسلة أعلام الثقافة التونسية التي توثق لندوات وتكريمات منتدى الفكر التنويري التونسي.
واحتفت المداخلات الأربع المقدمة مساء اليوم الأول من هذه الندوة الفكرية بتجربة الراحل، فأثبت الدكتور عمر حفيظ الذي عني بالنظر في “كتابة الكارثة” من خلال رواية “راضية والسيرك” لبوجاه، أن الراحل قد أغنى فعل الكتابة السردية لتكون متعددة ومنفتحة على مراجع مختلفة منها: التراثي والتاريخي والسياسي والمرجعي والذاتي.
بوجاه خلّص الكتابة القصصية في تونس من الأسئلة الاجتماعية والأيديولوجية وفتحها على أفق ظل يحتكره الشعر
وأضاف أن الرواية المذكورة تستشعر الكارثة أدبيا انطلاقا من ملامح الواقع التونسي المعيش، وأثنى على قدرة صاحب النص على المواربة الاستعارية والمخاتلة اللغوية، وهي رواية تحدد السياسي وتسمّيه وتتجرأ عليه تجرّؤا متمرّدا.
أما مداخلة الشاعر محمد الغزي فقد أقامها على السعي إلى فتح الحجرات الموصدة في كتابات الفقيد بوجاه، وعرّف مفهوم الحجرات الموصدة بكونها “حجرات الرغبة والحاسة والجارحة التي أمعنت المؤسسة في غلقها ترفعا أو تعففا أو بحثا عن سلامة موهومة”.
وفي هذا الإطار تندرج أغلب كتابات بوجاه في رواياته “مدونة الاعترافات والأسرار” و“التاج والخنجر والجسد” و“النخاس” و”راضية والسيرك” ومجموعته القصصية “سهل الغرباء”.
واعتبر أن جل هذه الأعمال تنتظمها ثلاثية: الرغبة والموت والمفارقة، وتناول في مداخلته تجليات هذه الثلاثية منتهيا إلى استخلاص قدرة بوجاه على تخليص الكتابة القصصية في تونس من الأسئلة الاجتماعية والأيديولوجية وأن يفتحها على أفق ظل يحتكره الشعر.
وقد عرضت مداخلة الباحثة ريم غانم إلى انزياحات التشكيل السردي وأزمة الهوية من خلال الفضاء الروائي المؤسس على ثنائية “الريف والمدينة” في رواية “النهر قرب المدينة”.
واهتمت بتتبع مظاهر هذه الانزياحات من خلال المعمار النصي الخارجي والداخلي، حيث بدت الرواية مسكونة بهاجس إنتاج وعي بفضاء مزدوج من ريف يختزله النهر الجاري ومدينة يكون الاستقرار فيها مجرد إعادة ترتيب للوجود.
وعرّجت على نجاح السرد في فضح الأقنعة المزيّفة ودمج الأسطوري التخييلي والواقعي في حيّز نصي واحد ينتجه السارد ويبني من خلاله عالما روائيا بأجواء ومناخات ورموز متنافرة ومتكاملة في اللحظة ذاتها. إنها رواية الفيضان، فيضان في الرؤى.
وعني الناقد محمد صالح بوعمراني في مداخلته بتتبع تجلّيات الذاكرة في بناء النص الروائي في تجربة بوجاه، مشيرا إلى أن مركزية دور الذاكرة في عملية القراءة وفي الإجابة عن سؤال الأسلوبية العرفانية المركزي: كيف نقرأ؟ لتكون نصوص بوجاه مشتغلة على الذاكرة اشتغالا يعطيها تميّزها ويصنع اختلافها، ويميز توجهات صاحبها في الكتابة ومبرراته في ذلك فنية وأيديولوجية ثقافية.
وتتبع المحاضر تجليات عبق الذاكرة من خلال العناوين والتصديرات والنظام الخططي الذي بنيت عليه كل رواية، وخصائص أساليب الكتابة فيها وتعدد رواتها واستحضار النصوص الغائبة، وخاصة كتب التراث، لينتهي إلى أن كتابة كمثل التي انتهجها بوجاه لم تنفصل عن الذاكرة.
السارد الواصف
في اليوم الموالي، كانت مداخلة الشاعر منصف الوهايبي معنية بالنظر في سرد الشيء أو اللون احتفالا بعوالم مختلفة حضرت في روايات بوجاه، وأهمها العالم المتوسطي أو “المغاربي”.
وتجسّد هذا العالم في روايته “النخاس” وخاصة في آخر ما كتب الراحل: روايته “السائرون في العتمة” الصادرة عن زينب سنة 2016، وقد ركزها على استصفاء ألوان رئيسية في الثقافة العربية الإسلامية، جعلها ألوان وجود. وأقامها على رحلة حذاء تائه يصحبنا في كل الرواية ويكون منفتحا لدلالاتها الرمزية زمن الثورات العربية، دلالات الخوف أساسا: خوف من الطغيان المزدوج: طغيان السلطة الاستبدادية وطغيان الموروث الثقافي.
الندوة المبرمجة قبل موت الفقيد بأشهر خصصت للاحتفاء بمنجزه الإبداعي الذي يعتبر علامة فارقة في الأدب التونسي
وقد نظرت مداخلة الباحث رياض خليف في توظيف رواية “سبع صبايا” لبوجاه للأسطورة التي اعتبرها نصا سابقا وكشف عن إيقاظها للأساطير النائمة، وسعيها إلى ابتكار نص سردي يقول تجربة الكاتب مع العالم والأشياء
. وتتبع الحضور الشكلي للأسطورة في عتبات النص ومتنه، ناظرا في ما أحدثه السارد من تحويرات للحصول على نص جديد، وخطاب روائي جديد مقيما لونا من البعث الخرافي طلبا للمعنى البليغ وللمقصد الملحمي ودفاعا عن أحقية السارد في إنتاج كتابة غامضة. لتكون رواية “النخاس” محط اهتمام الناقد مصطفى بوقطف، اهتمام بالوصف فيها وطرائق تشكيل المرجع، مبيّنا أن هذه الرواية قد تسربلت بالوصف وجعلته متمكنا من نسيجها وصادرا عن وجهات نظر للواصف خارج الحكاية.
وقد اختتمت هذه الندوة التكريمية بمداخلة الباحث عبدالباقي الجريدي حول فضاءات الخوف والتوجس في رواية “لون الروح” لبوجاه، مشيرا إلى قوة العلاقة بين هذه الرواية وفضاءات القمع والمراقبة والتجسّس.
وتتجسد هذه العلاقة في الفضاء وبناء التشكيل وخاصة فضاء المراقبة والانتهاك متمثلا في السجن.
وتعرّج المداخلة على مفهوم الكتابة/اللعب باعتباره من المفاهيم المتواترة في الرواية، هو اللعب الجدي “حين يدرك اللاعب أنه قد خسر مجالا فإنه ينقّب عن آخر لاختبار إمكاناته لكنه لا يقتنع بالخيبة” بحثا عن لون للروح.