"القونة".. مسرحية تونسية تجابه ظاهرة الهجرة غير النظامية

آية الطرابلسي: على المسرح أن ينفتح على وسائل إنتاج جديدة.
السبت 2022/04/23
البحث عن الذات في المكان الخطأ

رغم الحملات التحسيسية الكثيرة حول ظاهرة الهجرة غير النظامية التي تلقي بالآلاف للموت في حوض المتوسط أملا في جنة مفقودة أو هي مزيفة، فإن الفنون يمكنها أن تنفذ بشكل أعمق إلى دواخل البشر، وبالتالي يمكنها التعبير عن هذه الظاهرة وتحسّس بها وتكشف أسرارها، وهو ما حاولته مسرحية “قونة”.

شهدت خشبة مسرح سينما المدينة ياسمين الحمامات بمدينة الحمامات التونسية أخيرا العرض الأول لمسرحية “القونة”، التي تعتبر ثمرة ورشة عمل في التعبير المسرحي مع مجموعة من المسرحيين الهواة تحت إشراف المخرجة وأستاذة المسرح آية الطرابلسي.

والعمل الجديد تقدمه جمعية ACT للسينما والمسرح بالكاف ضمن حملة التوعية والإعلام “ESSHIH” بدعم من المنظمة الدولية للهجرة (IOM) وإشراف فني من قبل جمعيتيْ جسور إيطاليا وجسور تونس، إذ يحاول مجابهة الظاهرة الخطيرة التي لا تتوقف عن هز المجتمع التونسي يوما فيوما، ألا وهي الهجرة غير النظامية، التي يذهب ضحيتها الآلاف سنويا ممن يبتلعهم ملح المتوسط أو شبكات الاتجار بالبشر في الضفة الأخرى.

مسرحية “قونة” التي تقدم خلال ساعة تقريبا جاءت بمشاركة ثمانية ممثلين على الخشبة هم حنين العويني ومحمد أمين بن سيدهم وعاطف جعفر وإدير براهم وطه السويسي وشادي الناشي ونصرالدين بالغيث وحسام الصغير.

تقاطعات على الخشبة

الممثلون هم في الحقيقة أصحاب النص، كل منهم أطر شخصيته وارتجل لها ملامحها وحكايتها ونصها، بتأطير من مخرجة العمل التي حاولت أن تمس ظاهرة الهجرة غير النظامية من أرضية أخرى، هي “القونة” وهو لفظ تونسي يعبر عن المكان الخبيء والبعيد عن الأنظار الذي يجتمع فيه من ينوون الهجرة غير النظامية قبل أن يجدوا ثغرة للفرار عبر قارب

لا يعرفون متى يأتي، وعادة ما يكون المكان منزلا مهجورا أو تجويفا صخريا قريبا من البحر.

المكان الذي أعطى اسمه للعمل، لم يكن هو الفاعل الحقيقي في تحريك الأحداث، بل الحالات الإنسانية التي تتقاطع فيه، ومن ناحية أخرى ركز العمل على طرح هذه الحالات وخلق تقاطعات وتشابكات وحتى صراعات خفية أو معلنة بينها.

في القونة نجد المرأة التي سجن ابنها وامتهن جسدها وأذلها المجتمع في دوامة الليل والتهميش، ونجد صديقها القديم وقد التقيا صدفة فيما هو تحول إلى متشدد دينيا، يكشفان سويا خفايا ما عاناه كل منهما، في ما ينذر بصراع قديم مؤجل.

نجد كذلك الشاب الذي يرفض المجتمع طريقته في اللباس والحديث والتفكير، والذي يتقاطع مع شاب آخر تدفعه عائلته إلى الهجرة من خلال توفير ثمنها الباهظ، من خلالهما نكتشف أحلام أي مهاجر، مكان أفضل، فيه عمل ومال والأهم من هذا كله احترام للذات البشرية ومنحها الحق في الحرية وأن تؤسس لفرديتها وفق الميول الجنسية والعاطفية وحتى الفكرية التي تشاء.

تقاطع آخر يجمع شخصا يهاجر بهذا الشكل لأكثر من مرة، مدمن كحول وسجين سابق، يبدو أن له أسرارا في هجراته السابقة، التي نجا من إحداها بمفرده، بينما يأتي من يفضح أمره.

هناك أيضا الأستاذ الذي انقلب عالمه رأسا على عقب، وهاجرت ابنته تاركة إياه إلى النسيان، وإلى اجترار ذكريات الماضي والغرق في حنين يجره إلى ألم دفين لا نعرف تحديدا الأسباب كاملة، لكننا أمام شخصية فعل فيها الزمن فعله ولم يكن المجتمع ولا الدولة برحيميْن معها.

إذن تتقاطع كل هذه الحالات، بشكل ثنائي خاصة، لنتعرف مع كل شخصيتين على حالات اجتماعية قادت هؤلاء إلى الرحلة الخطيرة، وقليلون من ينجون منها ويصلون إلى الضفة الشمالية من المتوسط عبر بوابة إيطاليا.

نتعرف على الدوافع التي تقود هؤلاء إلى الهجرة المميتة وهي كثيرة لا تتلخص في الفقر ومحاولة تحسين الأوضاع المادية فحسب، بل هناك ما هو أعمق، إذ أصبح المجتمع مثل رحى لا ترحم المختلف ولا ترحب به بل تحاربه وتطحنه وتلغي ذاته وطموحه وخصوصياته وحريته وحتى حرمة جسده قبل أفكاره.

وتنتهي هذه التقاطعات بتقاطع جماعي في انتظار أن يأتي صاحب المركب، وهنا يطرح السؤال إن كان قد فر بأموالهم، وانتظارهم في هذا المكان القفر مجرد هباء.

ونلفت إلى أن الممثلين قدموا بشكل مميز أدوارهم ما ينبئ بولادة جيل جديد من العناصر المسرحية التي يمكن المراهنة عليها لتحقيق حراك مسرحي متجدد ومنفتح على أفكار الأجيال الجديدة وطاقاتها ومواهبها.

المسرح أكثر من فن

في حديثها لـ”العرب” تذكّر المخرجة المسرحية آية الطرابلسي بأنها من خلال هذا العمل لا تحضر كمخرجة فحسب وإنما دورها كأستاذة تربية مسرحية، إذ تعمل مع ممثلين بعضهم لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر، ومن ناحية أخرى فإن مشروعها المسرحي لا يتوقف عند حدود الجوانب الفنية الجمالية بل له وظيفة اجتماعية ونفسية، فبعض الممثلين يصعد للمرة الأولى على خشبة أمام جمهور.

وتشدد الطرابلسي على أهمية الجانب الاجتماعي والنفسي في المسرح، وهو مجال اشتغال أهمله الكثير من المسرحيين، إذ المسرح في جانب كبير منه له وظيفة نفسية، ربما تتجاوز حتى مفهوم التطهير الأرسطي، إذ يساعد المسرح على صقل الأفكار والأجساد والذوات ونحت أصواتها.

وتقول الطرابلسي “إنتاج مسرحية ‘قونة’ لم يكن سهلا، إذ جاء في إطار تعاون بين الجمعيات وبدعم من المنظمة الدولية للهجرة، علاوة على جمعتيْ جسور إيطاليا وجسور تونس، ووفر لنا مركز الفنون الركحية والدرامية بمحافظة نابل قاعة للتدريب، وكان صعبا جمع الفريق خاصة وأن بعضهم مضغوط بظروف الدراسة أو العمل ومن ثم ظروف البرايف التي كانت صعبة بدورها في غياب الإضاءة مثلا”.

العرض يحاول مجابهة الظاهرة الخطيرة التي لا تتوقف عن هز المجتمع التونسي يوما فيوما

وتشدد المخرجة، في تصريحها لـ”العرب”، على أنها تسمي هذا النمط من الهجرة بالهجرة غير النظامية، منكرة تسميات من قبيل الهجرة غير الشرعية، إذ تؤكد أنه من حق الإنسان التنقل والهجرة، لكن هذا النمط غير نظامي ومآلاته قاتلة للأسف.

وتوضح أنها لم تشأ أن تناقش موضوع الهجرة بشكل مباشر أو من خلال تفرعات درامية مشحونة وزائدة، بل أرادت خلق حكايات سلسة يخرج منها المتفرج متسائلا ومتورطا فكرا وعاطفة في الحكايات المتداخلة.

وتبين الطرابلسي أنها عملت مع شباب عاشقين للمسرح استلهم أغلبهم شخصياتهم وحكاياتها التي قدموها على الخشبة من الواقع مع إعمال الخيال فيها بالإضافة أو التشذيب، ولذا كانوا وكأنهم لسان واقعهم وبيئتهم، وهم من أبناء الوطن القبلي التونسي، الجهة التي عانت ومازالت تعاني من آثار الهجرة غير النظامية، وهي من أولى الجهات التونسية التي يندفع شبانها إلى مغامرة البحر المميتة.

تتقاطع الحالات في المسرحية، بشكل ثنائي خاصة، لنتعرف مع كل شخصيتين على حالات اجتماعية قادت هؤلاء إلى الرحلة الخطيرة

وترى المخرجة في لقائها بـ”العرب” أن المسرح يجب أن يأخذ وظيفته الاجتماعية والنفسية، لافتة إلى ضرورة إيجاد طرق أخرى لخلق التنوع في المسرح التونسي خاصة، والخروج به من دائرة النخبوية والدائرة المعهودة، التي لخصت العمل المسرحي في دعم الدولة لعروض مسرحية تعرض لمرات معدودات ثم ينتهي الأمر، ولا تحقق إقبالا جماهيريا ولا تخلق حراكا مسرحيا حقيقيا.

وفي رأي الطرابلسي على المسرح أن ينفتح على وسائل إنتاج جديدة، وأن يستفيد من التكنولوجيا ويشرك رجال الأعمال ويخلق له حركية اقتصادية من خلال فتح شباك التذاكر والترويج عبر أساليب جديدة للأعمال المسرحية.

13