القضاء المصري يغضب السلطة والمعارضة والشعب في وقت واحد

الأحد 2016/07/03
رجال القضاء لا يملكون لأنفسهم رد القضاء

القاهرة - رجال القضاء لا يملكون لأنفسهم رد القضاء، جملة وردت في مذكرات المستشار عبدالرازق السنهوري رئيس مجلس الدولة في خمسينات القرن الماضي والذي يوصف في كثير من الأدبيات القضائية بأنه أبو القانون المدني في مصر.

بقدر ما تعكس العبارة حالة القهر التي عانى منها المستشار الجليل عقب خلافه الشهير مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1954 ثم إقصاؤه من الحياة العامة نهائيا حتى وفاته بعد ذلك بسبعة عشر عاما، إلا إنها قد تكون أفضل تعبير عن حال القضاء في مصر.

القاضي ذاته قد يصبح بطلا قوميا بحكم واحد يصدره، مثلما حدث للمستشار يحيى الدكروري نائب رئيس مجلس الدولة، بعد أن أصدر حكما قبل أيام ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية التي أقرت فيها الأولى بأحقية الثانية بجزيرتي تيران وصنافير.

الغريب أن نفس الرجل كان قبل صدور الحكم الأخير يصنف بحسب كثير من الكتابات ضمن القضاة أعداء الشعب بعد إصداره حكما قبل فترة ببطلان تطبيق قانون الحد الأقصى على موظفي البنوك، حيث اعتبره البعض منحازا لأصحاب الثروات وناهبي مال الشعب ضد البسطاء والفقراء منه.

حيرة القضاة

واحد من أهم الشعارات التي يؤمن بها كل قاض أن حكمه يؤسس على ما توفر لديه من أسانيد وأوراق وبراهين، لكن هذا الأمر فيما يبدو لا يرضي الكثيرين، خاصة في القضايا السياسية التي تحظى بمتابعة إعلامية مكثفة.

مثلا في الحكم الأخير الذي أصدره المستشار يحيى الدكروري بعدم قانونية موافقة مصر على سيادة السعودية لجزيرتي تيران وصنافير، لم ينتبه المختلفون لفقرة صغيرة في حيثيات الحكم قال فيها القاضي إن “الحكومة المصرية لم تقدم ما يثبت قانونية تنازلها عن الجزيرتين”.

هذا يعني ببساطة أن الحكم كان يمكن أن يصدر في اتجاه آخر لو بادرت الحكومة بتقديم أسانيدها، مثلما تعني ضمنا إمكانية قبول الطعن الذي تقدمت به الحكومة على الحكم في حال وفرت تلك الأسانيد.

المفارقة أن نفس الحكم الذي قوبل بترحيب كبير من الرأي العام واعتبره البعض تبييضا لوجه العدالة في مصر تحفظ عليه قانونيون من وجهة نظر فنية، لأنه إذا كانت الحكومة لم ترسل اتفاقية التنازل كما جاء في الحيثيات فكيف يمكن الحكم على اتفاقية غير موجودة من الأصل؟

كذلك تجاهل كثيرون في انتقاداتهم للأحكام القضائية ببراءة رموز عهد الرئيس السابق حسني مبارك من الاتهامات التي وجّهت لهم، وعلى رأسهم مبارك نفسه ووزير داخليته حبيب العادلي، فيما أطلق عليه “مهرجان البراءة للجميع” أن القضاة يحكمون بما يتوفر أمامهم من أوراق.

نفس القاضي المغضوب عليه، قد يصبح بطلا قوميا بحكم واحد يصدره، مثلما حدث للمستشار يحيى الدكروري نائب رئيس مجلس الدولة، بعد أن أصدر حكما قبل أيام ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية التي أقرت فيها الأولى بأحقية الثانية بجزيرتي تيران وصنافير

نفس الأمر حدث حين هلل البعض لحكم السجن المؤبد الذي أصدره المستشار أحمد رفعت على مبارك والعادلي وحدهما بتهمة عدم حماية الثوار في ميدان التحرير، دون أن ينتبهوا لما قاله محامي مبارك المخضرم فريد الديب بأنه سيحصل على البراءة في أول جلسة لمحكمة النقص، لأن الحكم لم يكن مؤسسا على أسانيد قانونية قوية.

البرج العاجي

رغم التسليم أن السبب الرئيسي في حالة فقدان الود بين القضاة وبقية قطاعات الدولة هو الأحكام التي يصدرونها في قضايا مختلفة فترضي المستفيدين وتغضب المتضررين في غياب كلي للموضوعية في تقييم تلك الأحكام وعدالتها، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها في تحليل أسباب الحالة القضائية أن الكثير من أبناء السلك القضائي يستمتعون بالعيش في أبراجهم العاجية التي صنعوها لأنفسهم منذ سنوات طويلة.

صحيح أن الانعزال عن المجتمع بدأ كفكرة نبيلة تهدف لعزل القاضي عن كل المؤثرات المجتمعية التي قد تترك ظلالا على أحكامه، ثم تحوّلت إلى حصن لحماية القضاة من بطش الدولة وأجهزتها في فترات صدامها مع السلطة القضائية.

إلا أن الفكرة النبيلة طالها التشوه الذي صبغ كل تفاصيل الحياة في مصر منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، فتحولت من تحصين للقضاة إلى تمييزهم اجتماعيا لضمان ولائهم للدولة.

من وقتها حصل القضاة على أندية خاصة بهم ساهمت بدورها في خلق مجتمعات مغلقة (جيتوهات) مقصورة عليهم، كما تكرّست ظاهرة توريث المهنة، بحيث أصبح من حق أيّ قاض تعيين أولاده حتى من دون اشتراط تفوقهم مثلما كان من قبل.

خلقت هذه المميزات غير المبررة من وجهة نظر البعض حساسية تجاه القضاة، فاقمتها تصريحات بعض القضاة التي تبالغ في تقديرهم لأنفسهم وتهين الآخرين، لعل أشهرها تصريح وزير العدل الأسبق صابر محفوظ بأن ابن عامل النظافة ليس من حقه العمل كقاض.

كذلك التصريحات المتتالية لخلفه أحمد الزند التي أثارت الرأي العام ضد مهنة القضاء من أساسها بعدما اعتبر القضاة أسياد البلاد وأن من دونهم من العبيد، متوعدا من يحرق صورة أيّ قاض بحرق جسده.

ورغم أن التصريحات جاءت في سياق معين كان الزند فيه يعلق على تصرفات لمتظاهرين متعاطفين مع جماعات الإسلام السياسي، إلا أن تلك المبررات المنطقية لم تخفف من حدة العنصرية التي حملتها التصريحات، وكونها أبشع صور تكريس الشعور بالفوقية الذي يعاني منه بعض القضاة.

دولة تسعى الى قضاء مستقل

علاقة ملتبسة

أبرز الاتهامات العائمة التي توجّه للقضاة في مصر أنهم قضاة السلطة الذين يحكمون بما يوافق رغباتها ويرضون القيام بدور المطرقة التي تهوى بها الدولة فوق رؤوس معارضيها.

لكن الحقائق التاريخية تؤكد أن الدولة الرسمية وتحديدا منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 اتسمت علاقتها بالعاملين في السلك القضائي بكثير من التوتر وقليل من الودّ، منذ الصدام الأول الذي وقع بين عبدالناصر والمستشار السنهوري.

ورغم أنّ القاضي الشهير مؤلف دساتير العديد من الدول العربية ساند الثورة بقوة وأيّد مطالبها السياسية في حلّ الأحزاب وتعطيل الحياة النيابية في مصر عقب قيامها إيمانا منه بهذه الثورة، وكان وقتها يشغل منصب رئيس مجلس الدولة، إلا أن الأمور أخذت منحى مغايرا عندما أقدم السنهوري بعد عامين فقط (1954) على إلغاء بعض قرارات عبدالناصر الحكومية الذي كان رئيسا للوزراء، بصفته رئيسا لمجلس الدولة.

وقتها اشتعل الأمر بين القاضي الجليل الذي كان يعكف وقتها على إعداد دستور الثورة، وبين العقل المحرك لتنظيم الضباط الأحرار الذي كان على خلاف عنيف مع القائد الرسمي للثورة اللواء محمد نجيب.

في هذه الأجواء تم تصنيف موقف السنهوري بأنه ينفذ خطة اتفق عليها مع نجيب لتقليص صلاحيات عبدالناصر، ما أوغر صدر الأخير منه ثم كانت المظاهرة العمالية الغريبة التي قصدت مبنى مجلس الدولة واعتدى المشاركون فيها على السنهوري وكادوا يقتلونه.

بعدها بشهور تنبه عبد الناصر إلى خطورة عدم السيطرة على القضاء فحلّ مجلس الدولة، وأقر عدة تشريعات تضمن أن يبقى المجلس في قبضة الدولة، مؤذنا بذلك على بداية عهد التوتر بين الدولة والقضاء.

تكرر صدام عبدالناصر مع القضاة عدة مرات، كان أعنفها في مارس من عام 1969 حينما اعتبر الرئيس بيان الجمعية العمومية لنادي القضاة المطالب بالحريات، تدخلا غير مقبول في السياسة، ليتجدد الصدام ويصل ذروته بما عرف بـ”مذبحة القضاة” التي أحيل فيها حوالي 200 قاض للتقاعد.

كان عبد الناصر أول حاكم مصري يوكل أعمال القضاء إلى غير أهل السلك القضائي نفسه، بداية من محكمة الثورة التي عهد إليها محاكمة من وصفهم بأعداء الثورة من رجال الأحزاب والإخوان وبقية الأطياف السياسية.

وتشكلت المحكمة في مناسبتين الأولى عام 1953 من الضباط عبداللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وأنور السادات، ثم الثانية عام 1954 ورأسها الصاغ جمال سالم، وكان القاسم المشترك فيما بين القضاة العسكريين أن أحدا منهم لم يدرس القانون.

بعد ذلك تشكّلت المحاكم العسكرية التي كان عملها في البداية مقتصرا على النظر في قضايا العسكريين فقط، قبل أن يستخدمها الرئيس الأسبق مبارك في حقبتي ثمانينات وتسعينات القرن العشرين لمحاكمة خصومه السياسيين مستغلا ثغرة سمحت بمحاكمة المدنيين الذين يشكلون خطرا على الأمن القومي للبلاد.

ورغم أن العلاقة عادت للهدوء في فترة حكم الرئيس السادات الذي أعاد لنادي القضاة دوره الحيوي وسمح بإقامة انتخابات لمجلس إدارته، إلا أن تلك الفترة شهدت بداية محاولات الدولة لإفساد القضاة بدلا من معاداتهم.

عبد الناصر أول حاكم مصري يوكل أعمال القضاء إلى غير أهل السلك القضائي نفسه، بداية من محكمة الثورة التي عهد إليها محاكمة من وصفهم بأعداء الثورة من رجال الأحزاب والإخوان وبقية الأطياف السياسية

إفساد القضاة

بدأت الدولة تنشئ نوادي اجتماعية خاصة للعاملين في مهنة العدالة، وسمحت بانتداب القضاة للوزارات والهيئات الحكومية في مصر وكذا فتح باب الإعارات للدول العربية لتبدأ الدولة تجريب سياسة الجزرة بعد أن أدركت فشل سياسة العصا في تطويع القضاة.

في عهد مبارك تحوّل إفساد القضاة إلى مبدأ تعتنقه الدولة له نظامه وآلياته مثلما حدث في كثير من جوانب الفساد التي جرى تقنينها في ذلك العهد.

لكن ذلك لم يمنع انزلاق العلاقة إلى مواجهات عنيفة في مناسبات عدة، أبرزها تصدّي 3 قضاة لفضح تزوير الانتخابات البرلمانية عام 2005 ما أزعج الدولة، لتصدر قرارات بإحالة القاضيين هشام البسطويسي ومحمود مكي للتقاعد بتهمة الخروج على التقاليد القضائية.

وظهر على إثر تلك الأزمة تعبير “تيار استقلال القضاء” الذي كان من بين رموزه المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس نادي القضاة في ذلك الوقت الذي قاد حملة لرفض قرار مجلس القضاء الأعلى ضد القاضيين ورأى فيه تنكيلا بهما لوقوفهما مع الحق.

دعا مجلس إدارة النادي للاعتصام داخل مقره بوسط القاهرة، لكن الأمور تدهورت على نحو مفاجئ بعد اقتحام بعض رجال الشرطة المكان والاعتداء على القضاة المشاركين في الاعتصام لتتفجر الأحداث باندلاع مظاهرات في الشوارع تندد بما حدث مع القاضيين.

بحسب الكثيرين، فقد كان صدام مبارك مع القضاء مسماراً مهماً في نعش شرعية حكمه. حيث انتعشت عقبه الحركات المعارضة له مثل الحركة المصرية من أجل التغيير كفاية وغيرها، بما مهّد لاندلاع ثورة 25 يناير 2011.

منصة العدالة هي السلطة الوحيدة تقريبا في مصر، التي تعاني افتقاد الود مع الجميع، بداية من رأس السلطة مرورا بالجهات والمسؤولين الحكوميين والمعارضة بأطيافها المختلفة وصولا إلى العوام من أبناء الشعب.

8