القراء الأوفياء لا يبالون بإغراءات الكتاب الإلكتروني

يرى البعض أن النشر الورقي للكتب، والصحف خصوصا، يواجه أزمة حادّة قد تصل إلى تلاشي الورق، وذلك في ظل انتشار الشاشات وأجهزة القراءة المحمولة، التي تختزل الوقت وجهد التخزين وتتجاوز الحدود الجغرافيّة إلى جانب تكلفتها المنخفضة، مع ذلك، مازال البعض متمسكا بشكل الكتاب المادي بوصفه المنتج الأصيل بوجه النسخ الإلكترونيّة، فهو العلامة المرئية والماديّة على جهود صناعة المعرفة كما أنه الشكل الأشد أصالة لفعلي التدوين والقراءة.
أسس الناشر السوري فايز علام، العام الماضي، دار سرد للنشر والتوزيع، والتي تميزت بإصداراتها التي تخاطب القرّاء بمختلف أنواعهم، ساعية إلى تقديم نصوص وروايات تنقذ القارئ من حمّى الابتذال والاستهلاك المحيطين به، فالدار حسب علّام تنشر لـ”كل القراء” ما ترى فيه شيئا جديدا أو مختلفا، لكنها لا تنشر الرديء.
نسأل بداية علّام عن مغامرة النشر الورقي وتأسيس دار للنشر والانتقال من موقع “العامل في دار نشر” إلى موقع “مؤسس أو مدير”، ويجيب بأنه رغب مع زملائه في الدار في خوض هذه المغامرة بطريقة يكونون فيها مسؤولين بشكل كامل عن كل التفاصيل المتعلقة بالكتاب، لا بجزئية واحدة منه، لصناعة كتب تختزل رؤيتهم لما هو أدب وفن وجمال، بدءا من اختيار النص المؤهل للنشر، مرورا بكل العمليات الأخرى التي تنتهي بالطباعة والترويج للكتاب.
يقول علام “اخترنا أن ننشئ دار نشر ورقية في هذا الوقت الذي توحشت فيه الآلة، انطلاقا من رفضنا لهذا التوحش. إذ بتنا اليوم نعيش كل جزء من حياتنا تحت سيطرة الآلة رفقة الآلة، سواء في وقت عملنا أو في وقت فراغنا، بل حتى في تواصلنا مع البشر، وأردنا من خلال إنشاء دار ‘سرد‘ المصرّة على نشر الكتب الورقية المحافظة على هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والكتاب، ولو كان ذلك سعيا رومانسيا من قبلنا”.
الحرب مع القراصنة
يدخل علام في صراعات ونقاشات دائمة مع قراصنة الكتب، تنتهي عادة بحرف النقاش عن مساره أو عدم إكماله كونه من الرافضين لنشاطهم بشدّة، بالرغم من وجود فئة كبيرة من مؤيدي مجانيّة الكتب، وحين سؤاله عن ذلك يجيب بأن الآراء المناقضة بشدة لمعاداتنا للقرصنة هي آراء غير منطقية، وأصحابها يعلنونها من خارج عملية النشر كلها، والأهم أنها تعميمية يخلطون فيها الحابل بالنابل، والناشر الذي يحترم المهنة بالذي لا يحترمها، والكتاب الجيد بالرديء.
ويضيف “نحن ننشر كتبنا ورقيا وتوزيعنا جيد جدا في معظم البلدان العربية، وفي قسم صغير من أوروبا، ونتعامل مع منصات ومتاجر إلكترونية لديها خدمات شحن الكتب إلى مختلف الدول (بكلفة أعلى لكنها مناسبة للقاطنين في الخارج)، كما أن كتبنا متوفرة بصيغة إلكترونية على أكثر من منصة وموقع، وبسعر أقل من سعر الكتاب الورقي. مع ذلك، أغلب الناس يفضّلون تحميل الكتب مجانا على أن يدفعوا ثمنها، فالمشكلة لا علاقة لها بتوفر الكتاب وسعره، بقدر ما لها علاقة بوعي الناس وإدراكهم لمسؤوليتهم. وأعتقد أنه إذا أردنا الخوض أبعد في هذه النقطة سنكتشف أن أحد الأسباب هو وجود خلل عميق في ‘تربيتنا المواطنية‘، وهذا ما يطول شرحه هنا”.
القارئ المثالي
حاولنا مع علام أن نتعرف على صفات القارئ المثاليّ ذاك الذي تقاتل من أجله الدار وتؤمن بذكائه، وهنا يلفت محدثنا إلى أن القارئ الذي يؤمن بقراءته، يجمع ثلاث صفات: مغامر، صبور، مجتهد. فالمغامر هو من يجرّب قراءة كتب ليكتشفها بنفسه دون أن يركن إلى اقتراحات حددتها له الجوائز والقوائم المنتشرة بكثرة على شاكلة “أفضل 5 روايات عن…، أفضل 100 رواية عربية، والصبور، هو من لا يرمي الكتاب لأنه صعب أو ضخم أو إلى آخره من معايير لا علاقة لها البتة بقيمة الكتاب، بل يحاول فيه المرة تلو المرة. والمجتهد، هو من يبذل ما في وسعه لتقييم ما قرأه، والتقييم هنا يستلزم بالطبع قراءات أخرى سيكتشفها القارئ ويجب أن يسعى إليها.
ويضيف “القراءة الحقيقية ليست منشورا على فيسبوك نقرؤه ثم نضغط ‘أعجبني‘ أو ‘لم يعجبني‘، إنما القراءة الحقيقية هي تحديدا في التأمل الذي يليها ومن ثم التفكير، الذي نجيب فيه عن ‘لماذا أعجبني؟‘، أو ‘لماذا لم يعجبني؟‘. الثقافة سؤال، والسؤال بحث، والبحث يفتح دروبا لا نهائية”.
نسأل علاّم عن احتمال وجود “سوق” للرواية العربيّة خارج العالم العربي، أي الترجمة إلى لغات أخرى والانفتاح على قارئ جديد، وهنا يشير علّام إلى غياب وظيفة الوكيل الأدبي، والذي سببه غياب توصيف دقيق لمهنة الناشر عربيا.
ويضيف أن ما يُترجم الآن من العربيّة يعتمد بشكل كبير على ما يصل إلى قوائم الجوائز، أو يعتمد على العلاقات الشخصية للمؤلف ومدى انتشاره، وغني عن القول أن كلا العاملين لا يعني بالضرورة أن ما يترجم هو أفضل ما ينتجه الكتّاب بالعربية، بل، ربما، في بعض الحالات، هو الأسوأ.
أما عن التعامل مع الترجمة على أنها مرتبة شرف ينالها الكاتب العربي فيجيب علام “السبب الدقيق لذلك أننا مستلبون أمام الغرب ونراه أفضل منا في كل المجالات، وهو السبب نفسه الذي يجعلنا نثق بالرواية الغربية المترجمة، أكثر من ثقتنا بالرواية العربية. أعرف كثيرا من الروايات العربية مرعبة الجمال لم يلتفت إليها إلا القلة، وأعرف كثيرا من الروايات الغربية المترجمة شديدة البساطة لكنها حققت عندنا شهرة لا تستحقها. أتخيّل أحيانا أن يقوم أحدهم بلعبة يجرّب فيها أن ينشر نصا بسيطا لكاتب عربي واضعا على غلافه اسما مترجما، وينشر نصا جيدا لكاتب غربي واضعا على غلافه اسما عربيا، ويكشف هذه اللعبة (الخدعة) بعد أن نرى النتائج. طبعا، هذا صعب التحقق عمليا، لكن… من المثير التفكير في هذا حتى دون تطبيقه”.