القراءة الإخراجية للنص المسرحي هل لها حدود؟

المخرج يمكن له استبدال بعض البنى الفرعية بغيرها، ومن ثمة يكون البناء الدلالي للمسرحية قد أُنتج ثانية من خلال الإخراج.
الاثنين 2020/04/06
"أوراق الحب" للمخرجة مجد القصص.. انسيابية وتداخل بين الفنون

أسهمت النظريات الألسنية والسيميائية، منذ مطلع القرن الماضي، إسهاما كبيرا في خلق تنوّع لا حدود له في التجارب المسرحية، وخرق مواضعات المسرح وأعرافه، فصار أي نوع من الإخراج لمسرحية ما أمرا مُمكنا، كما تقول الباحثة الألمانية إيريكا فيشر ليشته، انطلاقا من الاختلاف القائم بين نسق النص المسرحي المكتوب ونسق العرض المرئي المجسّد على الخشبة.

فالأول يتألّف من علامات لفظية بوصفه خطابا لغويا، في حين أن الثاني يتألّف من علامات لفظية وغير لفظية كعلامات ما وراء اللغة أو اللغة الشارحة، وتلك التي تصدر عن الجسد وعلاقتها بالكلام (الحركات والإيماءات)، والأزياء والسينوغرافيا والرقص والمكياج.

وهكذا غدت العلاقة بين النص والعرض عملية صيرورة يتشكل النص عبرها بوساطة نظام سيميائي معيّن، ثم يتحوّل إلى نص لنظام سيميائي آخر في الإخراج أو العرض.

لكن ما دام التطابق غير قائم بين العلامات اللفظية للنص وعلامات العرض، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف يقوم المخرج بعملية تحويل النص إلى عرض مشهدي؟ يتعيّن التوكيد أن نقطة الانطلاق لا تكمن في النص فعليا، بل في قراءته، فليس مطلوبا من المخرج أن ينطلق من النص كما هو، بل كما يقرأه ويُدركه.

الإخراج المسرحي، الحداثي وما بعد الحداثي، يقوم على اجتهادات لا حدود لها، ومغامرات فنية، واتجاهات مختلفة يجمع بينها المنحى التجريبي والطليعي

إن مفهوم القراءة هنا يشبه مفهوم القراءة في النقد الحديث، فهو فعالية تملأ الفجوات، أو النقاط اللامحدّدة، العائمة، الحرة في النص المسرحي، وتضيف قدرا من التحديد، لا التقييد، إلى الموضوعات التي يتضمنها في خطوط عامة.

ولهذا فإن الخطوة الأولى لأي تحوّل ستتوقّف على قراءة النص، تلك الفعالية التي يُعطى من خلالها معنى لعناصره الفنية، وللتراكيب التعبيرية المتتابعة (السلسلة المُتجاورة من الألفاظ التي يكوّنها التعاقب الخطي أو الأفقي للّغة) الأكثر تعقيدا، وللنص ككل.

ووفقا لذلك، تكمن نقطة الانطلاق في المعاني التي تطوّرت أثناء عملية القراءة، ومهمة المخرج والممثلين هي البحث عن علامات مسرحية قادرة على التعبير عن تلك المعاني ونقلها. كما جرى تأكيد أن اختيار علامات مسرحية مُمكنة لا يمكن حصره بالنص المكتوب، ولا يمكن أن تجمع من ذلك النص سوى معان، ولأجل تلك المعاني ينبغي أن نجد العلامات المسرحية الملائمة، ولكن لن تكون العلامات ذاتها.

يمكن إيراد مثال على ذلك بأنه حتى لو كانت الإرشادات، أو التوجيهات المسرحية التي يضعها المؤلف، تُبيّن بأن الشخصية المسرحية تتنهّد، أو تركض، أو تجلس كي تعبّر عن انفعال معين، فليس من الضروري اتباع هذه الإرشادات، التي ربما كانت قد تقرّرت وفق أعراف مسرحية للزمن الذي كُتب فيه النص.

ثمة أمثلة كثيرة على تغيير المخرج لتوجيهات المؤلف الخاصة بسلوك الشخصيات، أو انفعالها في النص المسرحي كما في تجارب العديد من المخرجين، ناهيك عن عدم تقيّد أغلبهم بمواصفات الفضاءات المقترحة في النص، وأزياء الشخصيات، وعناصر أخرى سمعية وبصرية، ممّا يُثبت أن عملية التحوّل لا يمكن أن تقودها الأسس التي تقوم عليها بنية المسرحية المكتوبة، بل قراءة المخرج ورؤيته الجمالية والفلسفية.

ومن بين أشكال التحوّل الأساسية “التحوّل التتابعي”، “التحوّل البنيوي” و”التحوّل الكلي”، ويُعد الأخير أكثرها شمولا، إلى درجة أنه يتضمّن الشكلين الآخرين بوصفهما قابلين للتحقيق، فهو يُستمدّ من النص ككل، بناء ودلالة. ولكي يجري التعبير عن شكل التحوّل هذا من خلال العلامات المسرحية يكون من المفيد، حسب رأي ليشته، تحويل جملة بعد جملة، أو تركيب النصوص التحتية كمعان مُركّبة للبُنى الفرعية.

من ناحية أخرى، قد يرى المخرج أن معنى المسرحية ينتقل، بشكل أفضل، عبر الإخراج الذي ينقل أجزاء من الحوار إلى مشاهد أخرى، أو يُوزّعه على نحو مُغاير لما كتبه المؤلف، كما في العديد من تجارب المخرجة الأردنية مجد القصص، مثل “سجون”، “بلا عنوان” و”أوراق الحب” في سياق مشروعها الذي أطلقت عليه “فيزيائية الجسد”، واشتغالها الدراماتورجي على النصوص المسرحية التي تختارها وتحوّلها إلى لوحات مستقلة، تختزل الحوار إلى أقصى درجة، ولا تجمعها حبكة درامية، كما في العروض التقليدية، بل ينتظمها رابط جمالي ودلالي، وتسير في خط تراكمي يتضافر فيه الرقص الحديث مع التعبير الجسدي والموسيقى والمؤثرات الصوتية والغناء، ويتداخل بعضها ببعض بانسيابية تحول دون تفكّك جسد العرض وانفراط جغرافيته إلى جزر عائمة.

كذلك يمكن أن يعمد المخرج إلى استبدال بعض البنى الفرعية بغيرها، أو حتى حذفها. وفي هذه الحال يكون البناء الدلالي للمسرحية قد أُنتج ثانية من خلال الإخراج.

العلاقة بين النص والعرض غدت عملية صيرورة يتشكل النص عبرها بوساطة نظام سيميائي معيّن، ثم يتحوّل إلى نص لنظام سيميائي آخر في الإخراج أو العرض

وفي تجارب أخرى سبقت تجارب مجد القصص قرأ بعض المخرجين، مثل العراقي صلاح القصب، نصوصا مسرحية ذات مكانة كبيرة في التراث المسرحي العالمي (نصوص شكسبير وتشيخوف مثلا)، قراءة صادمة عصفت بها، وصاغتها إخراجيا، في إطار “مسرح الصورة”، برؤى بصرية تقوم على تكوينات جسدية، وأشكال حركية وإيمائية غامضة وسريالية مُصمّمة على وفق علاقات إيحائية متغيرة، مع الاستغناء عن الحوار استغناء كاملا، أو الاكتفاء بالقليل الجوهري منه لإعلاء الجانب البصري في العرض.

إن هذه التجارب، وغيرها لمخرجين في الغرب، قد جعلت الإخراج المسرحي، الحداثي وما بعد الحداثي، يقوم على اجتهادات لا حدود لها، ومغامرات فنية، واتجاهات مختلفة يجمع بينها المنحى التجريبي والطليعي، ويتصدّر فيه الاشتغال على البناء المشهدي، والبحث عن فضاءات جديدة، والقراءة المُغايرة المُنتجة التي تهدف إلى الإمساك بما هو مسكوت عنه في النص، أو لا مفَكّر فيه، وإطلاقه في فضاء العرض بأشكال مختلفة من العلامات البصرية الحرة، التي تحتاج إلى قراءة ذكية من طرف المتلقي لاستنطاقها وتأويلها.

وبذلك تداخلت رؤية المخرج (القارئ الأول للنص) ورؤية المتلقي (القارئ الثاني للنص والعرض) في إنتاج الخطاب المسرحي، وإثراء رؤية المؤلف.

لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى تكون للمخرج حرية التصرّف بالنص المسرحي؟ بعض المؤلفين يرى وجوب تقييد هذه الحرية لئلا يجري العبث بنصه، في حين يرى آخرون أن المخرج بمنزلة مؤلف ثان للنص، لذا لا ضير في أن يفعل به ما يشاء!

17