"القراءات الخطرة" رحلة عبر الكتب في واقع الإنسان المعاصر

آذر نفيسي: الكتب لا تنقذنا من الموت لكن تساعدنا على العيش.
الاثنين 2024/03/04
الأدب يزيح الغطاء عن الطاغية الكامن في ذواتنا

الأدب خيال لا اختلاف في ذلك، لكنه خيال يساعد في فهم الواقع بل يفتح كل ما يستشكل فيه للقراء، وبالتالي فهو وسيلة معرفة أيضا وليس مجرد تسلية. الكاتبة الأميركية - الإيرانية أذر نفيسي تقرأ من خلال الأدب الوقائع والمسار الإنساني، في رحلة تبدأ من ذاتها وتنفتح على روايات وكتب تطل عبرها على ما يحدث.

الأدب بجميع فروعه يتسع لتناول الظواهر والتقلبات التي تعيد تشكيل الواقع الإنساني وتزلزل طبقات الأفكار والمعتقدات الغالبة على المشهد. وبذلك يمتد مجال الأدب نحو الزوايا التي قد تكون ضمن اختصاصات العلوم الإنسانية. وكلما تبدو التحديات شائكة أكثر يتعاظم الاهتمام بقراءة الأعمال الأدبية. بل يتم البحث عن مستندات الفهم في تضاعيف النصوص الإبداعية. ما يعني أن الواقع يحيل الذهن إلى ما هو صنيع المخيلة.

ينقل الكاتب اللبناني عيسى مخلوف عن أستاذه لوي فانسان توما رأيه بأن العلوم الاجتماعية ستتخذ شكل الرواية في المستقبل. وبدوره يضيف إدغار موران الرؤية الأدبية إلى حزام الأدوات التي يمكن التعويل عليها لمعاينة الحركات الإنسانية، لافتا إلى وجود إمكانية لقراءة التاريخ وصراعاته المدمرة من عدسة شكسبير أو ويليام فوكنر.

ما تقدمه الكاتبة الأميركية من أصل إيراني أذر نفيسي في كتابها المعنون بـ”القراءات الخطرة” متبوعا بعبارة توضيحية “القوة المؤثرة للأدب في الأزمنة المضطربة” رصد للأزمات الخانقة من زاوية النصوص الأدبية.

تشير صاحبة "جمهورية الخيال" في مقدمة نصها الأحدث إلى أن الكتاب الذين تصحبهم في رحلتها الكاشفة لبذور التزمت المغلف بالفكر الديني والتعصب العرقي وسلب المرأة حقوقها الإنسانية، قد عاشوا على حافة الصدمات والأخطار. موضحة بأنها ليست بصدد أدب المقاومة بقدر ما يهمها الأدب كمقاومة. والحديث عن آلية مقاومة الأدب والفن لكرسي الحكم. ولا ينتهي برنامجها باختراق عقلية الطغاة الجاثمين على صدر الزمن بل تتوسم من الأدب إزاحة الغطاء عن الطاغية الكامنة في ذواتنا.

تعويذة سردية

الكتاب يذكر القارئ من جديد بأن الغاية من قراءة الرواية ليست التسلية فحسب إنما معرفة روح العصر
◙ الكتاب يذكر القارئ من جديد بأن الغاية من قراءة الرواية ليست التسلية فحسب إنما معرفة روح العصر

إذا كانت السياسة لا تسفر عنها سوى الخلافات والانسداد فإن ما يعقد عليه الأمل لكسر الحلقة الجهنمية هو الأدب الذي قد يبدل الصراع بالتواصل والجمود بالمرونة. تشهد المحطات التاريخية بأن الجرائم الكبيرة تسبقها حملة على الثقافة والكتب. تذكر نفيسي بالمقولة التي يصح اعتبارها لازمة لأجندات الإبادة الإنسانية “أحرقوا الكتب أولا، ثم اقتلوا الناس بعد ذلك”، وتسرد في سياق مقاربتها المسكونة بالحس الأدبي جانبا من سيرتها، مسلطة الضوء على دور البيئة التي نشأت فيها.

كما لا تغيب شخصية الأب على امتداد مرويتها. إذ تعترف بأن علاقتهما تشهد الهبوط والصعود غير أن الموت والبعد قد أخرجا المشاعر من منطقة التوتر وما تستحضره هو أسعد لحظات مرحلة الطفولة. تغادر نفيسي إيران وهي تبلغ الثالثة عشرة من عمرها. ومنذ تلك اللحظة تتحول الكتب والقصص إلى تعويذتها الخاصة وبساطها السابح في العوالم المتخيلة. وما إن يهاجم القلق أوقاتها حتى تهرع نحو القراءة محتمية بنفسها من الهواء المسموم. هذا ليس كل ما يمكن للقراءة تحقيقه بل تفتح الكتب ممرا للتواصل مع من طواه الغياب.

تشرك أذر نفيسي والدها أحمد، الذي رحل قبل أن تشرع بتأليف كتابها الجديد باثنتيْ عشرة سنة، في تفاصيل ما ترويه من الوقائع والتحولات التي يمر بها المجتمع الأميركي بالتوازي مع متابعتها للمظاهرات التي لا تتوقف حلقاتها في إيران. ويقوم المؤلف بأكمله على تقنية الرسائل وتضم كل رسالة مراجعة لفكرة وثيمة حزمة من الأعمال الروائية.

تفتتح نفيسي مراسلتها باستعادة الملابسات التي أثارتها رواية “آيات شيطانية” ومن المعلوم أن الخميني قد أفتى بإباحة دم كاتب الرواية سلمان رشدي لأنه حسب اجتهاد رجل الدين قد أساء إلى الرموز الإسلامية. والتهديد لم يستهدف صاحب الرواية فحسب بل طال الشخصيات المتضامنة معه، أوردت نفيسي ثلاثة أسماء من بين المستنكرين للفتوى وول سوينكا وعزيز نسين ونجيب محفوظ ويبدو أن الكاتبة التبس عليها الأمر لأن صاحب “ثرثرة فوق النيل” تعرض لمحاولة الاغتيال بسبب روايته “أولاد حارتنا”، وما يفهم من تعاطف أذر نفيسي مع الكاتب الهندي وخلافها مع والدها حول قيمة روايته وقولها إن الكتاب الإيرانيين يجب عليهم الوقوف ضد الفتوى أن مصادرة الحريات تحت يافطة الشريعة في عهد ما بعد الثورة وتصاعد حملة تكميم الأصوات المعارضة عمقا لديها الشعور بالقهر.

وتخاطب نفيسي والدها متمنية لو تسنت له فرصة قراءة الرواية لأنها تناوش العقليات الباحثة عن منطقة الراحة. محملة ما اعتبر تجديفا للدين في أجوائها على المحمل الفنتازي المتخيل. يشار إلى أن ما تقوله الكاتبة عن “آيات شيطانية” لا يتوافق مع رأي النقاد منهم الناقد المصري جابر عصفور الذي وجد قيمتها الإبداعية متواضعة ولولا الفتوى الشهيرة وما تبعها من الجلبة لما تصدرت الواجهة.

على أية حال فإن الخصومة هي عنوان للعلاقة بين الرواية والسلطة على مر العصور تشير الكاتبة إلى الثقافة الدينية لدى والدها فهو كان يرفض تصديق ما ينشره كل مذهب بأن من بين بلايين المسلمين لا يدخل الجنة إلا الموالون لمبادئه. ويتناوب على مضمون الرسالة السرد الكاشف لمغزى العمل الأدبي ونقل ما تسمعه الكاتبة من صديقتها شيرين، التي تعيدها إلى واقع المجتمع الإيراني المنتفض. تنصرف نفيسي في مفصل آخر من قراءتها المتقابلة بين الواقع والنص نحو جمهورية أفلاطون. محددة التوقيت الذي قرأت فيه سيناريو العالم المثالي بمواصفات أفلاطونية وما تثور ضده في الجمهورية هو موقف أفلاطون عن الشعراء. لأن الخيال محرك للعلوم وليس جوهرا للفنون والأدب فحسب.

الأمر الساخر برأي الكاتبة أن أسلوب أفلاطون يتمتع بنفس شعري شيق وتضم حواراته المنسوبة إلى سقراط استعارات وبلاغة في الصياغة. والحجج التي يقدمها تلميذ سقراط واهية ومضحكة. تبلغ نفيسي والدها عن مفاجأتها بكلام مرسل على لسان سقراط عن الشعراء والرواة والعدائية المبثوثة ضد هؤلاء في جمهورية أفلاطون.

◙ الإغراق في الشبكات التكنولوجية يهمش الهموم الفكرية والثقافية وبالتالي يؤدي إلى مقاطعة الكتب وكأنه نوع من معاداتها

مهمة الشاعر بنظر نفيسي تتمثل في إثارة الشكوك عن الأشياء والخروج بالذوق من منطقة الأمان. وهي لا تبدو متفائلة بشأن مناشدة الأغلبية لحرية المعرفة لأنها تأتي نتيجة الألم والوحدة والمطاردة لذلك لا يختار هذا الدرب سوى الأقلية المغامرة. وما يغري الجموع في المجتمعات الشمولية هو توفير الأمن والوعود بالأمان. تلفت الكاتبة النظر إلى ما حققه ترامب على هذا الصعيد إذ منحه الجمهور الثقة ليس إعجابا بذكائه ولا بحنكته، بل شعاراته بعودة أميركا العظيمة زادتهم شعورا بالأمان.

تنفتح رسالة آذر نفيسي على رواية “فهرنهايت 451” ونبوئتها بعالم يتخلى عن الكتب ويصنف فيه كل من يعارض حظر الكتب في قائمة المجانين. لكن يتعرف الإطفائي غاري مونتاغ المكلف بإتلاف الكتب على جارته الشابة كلاريس ماكليلان، فهي تفتح له طريقا آخر وتعيد له الإحساس بالمكونات غابت عن مجال إدراكه إلى أن تزاح القشور بينه وبين الواقع المتشبع بالعنف والتبلد.

يقول مونتاغ لزوجته “نحن بحاجة إلى أن نشعر بالانزعاج حقا ولو لمرة واحدة. منذ متى لم تشعري بالانزعاج حقا؟” فهذا السؤال هو ما يجب على الجميع طرحه في أميركا وفق قراءة نفيسي. محاربة الكتب والفكر لا تتخذ شكلا واحدا بل تتبدى في عدة ممارسات فإن الإغراق في الشبكات التكنولوجية يهمش الهموم الفكرية والثقافية وبالتالي مقاطعة الكتب وعدم الاهتمام بها ليس إلا نوعا من المعاداة.

تتباين الأنظمة السياسية في آليات الحكم ومصادر شرعيتها غير أن ما تشترك فيه ضمنيا هو التعتيم على أهمية الكتب والقراءة. لذلك يصرح الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل بأنه لا يصدق أي سياسي يدعم حملات القراءة سواء كان ينتمي إلى اليمين أو اليسار. وتتابع نفيسي ما يطفو على سطح الواقع الاجتماعي من ظواهر وسلوكيات تؤكد بأن الإحداثيات والقفزات العلمية قد تقابلها الانتكاسة على مستوى الضمير والقيم الإنسانية لذلك فإن القساوة تستدعي المبدأ الذي كانت تؤمن به زورا نيل هيرستون صاحبة رواية “عيونهم كانت تراقب الرب”، فهي واجهت العالم ليس بالبكاء عليه بل بالانكباب على شحذ سكين المحار.

تعبر الكاتبة عن إعجابها الشديد بهيرستون إذ نصحتها ناشطة نسوية بقراءتها ومن ثم تضيفها إلى أجندة محاضرة قدمتها لتدريس الأدوار المؤثرة للنساء في الأدب. وما تستخلصه من موضوع الرواية أن مهمة الأدب ليست في إصدار البيانات أو الرسائل بل في إقحام القراء في التجارب الفردية. ومن الواضح أن نيل هيرستون نشرت روايتها عن التمييز العرقي وما يكسب عملها قيمة هو عدم التورط في التعميم وهذا لا يعني بأنها لم تدرك تجذر فكرة العبودية في الثقافة الغربية برأيها أن البيض لا يمكن لهم التخلص من رواسبها وهم أقاموا مساكن العبيد بعيدا عن منازلهم.

عقدة الهوية

 ◙ نفيسي أرادت استجلاء عن نفحات إنسانية في معمعان التناحر على الأوطان
 ◙ نفيسي أرادت استجلاء عن نفحات إنسانية في معمعان التناحر على الأوطان

من الأعمال الأدبية التي تشكل الخارطة الذهنية لنفيسي هي “العيون أكثر زرقة” لتوني موريسون. في روايتها حياة فتاة تعاني من الأرق النفسي لأنها تفتقد إلى معايير الجمال حسب ما هو متواضع عليه. وهذه الحبكة تعيد الكاتبة إلى ما أثار اهتمام والدها أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في واشنطن، إذ لفت نظره التناقض بين الشعارات الداعية إلى الحرية والمساواة والنفس العنصري المبثوث في الفضاءات المجتمعية فالصراع على الأرض ثيمة للعديد من الروايات التي تصدت لهذا الموضوع.

أرادت نفيسي استجلاء عن نفحات إنسانية في معمعان التناحر على الأوطان. من خلال رواية “حتى نهاية الأرض” للكاتب اليهودي غروسمان ورواية “باب الشمس” للكاتب الفلسطيني إلياس خوري. كذلك رصدت ومضات حيوية من حياة الجنود في مذكرات أكرمان المعنونة “أماكن وأسماء عن الحرب والثورة والعودة”، ومن المواقف التي تذكرها نفيسي هو اللقاء الذي جمعها مع خوري إذ تسمع من الأخير بأن الأدب لا ينقذ أحدا وإن نجح القراء في إنقاذ الأدباء من النسيان فهذا يعود إلى سحر العلاقات بين القارئ والكلمات.

◙ نفيسي تكشف سبب افتتانها بالكاتبة الكندية مارغريت آتوود مارة على التقاطعات التي لاحظتها بين جمهورية "جلعاد" ومايدور في إيران وأميركا في عهد ترامب

تكشف نفيسي سبب افتتانها بالكاتبة الكندية مارغريت آتوود مارة على التقاطعات التي لاحظتها بين جمهورية “جلعاد” في روايتها “العهود” ومايدور في إيران وأميركا في عهد ترامب. واللافت فيما ترويه آذر نفيسي أنها على الرغم من تقديرها للأعراف الديموقراطية في بلدها الثاني. لكنها لا تغض الطرف عن الثغرات الموجودة في الوعي الأميركي وشخصية المواطن الأميركي الذي لا يهمه العالم الخارجي، وهذا ما يستغربه الوالد أيضا.

إن معرفة الشعب الأميركي بالشعوب الأخرى ضئيلة كما أن صانع القرار والسياسي الأميركي ثقافته شحيحة عن العالم. وبما أن آذر نفيسي مواطنة أميركية تعاين ما يعتمل به بلدها من التحولات تسترسل في سردها الاستكشافي للواقع وحتى لا يكون كلامها تجريدا تقابل بين قراءاتها ومشاهداتها العينية إذ تربط بين ما تضمه كتب وروايات جميس بولدين وتأجيج مشاعر الكراهية في أميركا. المتمثلة في مقتل جورج فلويد. على يد شرطة مينيا بوليس. وسمع العالم نداءات الضحية والأسوأ هو أن دونالد ترامب حينها هدد باستخدام القوة وإصدار الأمر للحرس الوطني بالتحرك ضد المتظاهرين.

 تعترف نفيسي بأن العصر يسود فيه اللايقين وتستشهد بما قاله بولدين في حواره مع باريس ريفو “عندما كنت طفلا كان العالم أبيض والآن يكافح العالم ليبقى أبيض، شيء مختلف تماما”. والأهم في هذا السياق هو أن صاحب رواية “أعلنوا مولده فوق الجبل” يلمح إلى أن تأثير الكتابة التي لا يؤتي ثماره بين عشية وضحاها.

من جانبها تؤكد أذر نفيسي على أن الكتب لا تنقذنا من الموت لكن تساعدنا على العيش أما بالنسبة إلى دور الفن والأدب والفكر على الإنسان لا يكون إلا نسبيا، فكان أحد القادة النازيين بعدما يقتل الأسرى بالغاز يعود إلى البيت يتمتع بالاستماع إلى موزارت.

يذكر أن جل أجزاء الكتاب قد كتبتها نفيسي إبان الحجر القسري إثر تفشي وباء كورونا. ما يقع عليه المتلقي في تلافيف هذا الكتاب يذكر من جديد بأن الغاية من قراءة الرواية ليست التسلية فحسب إنما معرفة روح العصر. وبالطبع أن الأدب كما يقول الباحث الفرنسي أنطون كومبانيون لايقدم قواعد عامة بل قصارى ما يمكن تقديمه هو أمثلة شفافة.

12