القاهرة تستعيد سور مجرى العيون من صانعي الجلود

تخلصت منطقة فم الخليج وسط القاهرة، حيث امتداد سور مجرى العيون التاريخي لبضعة كيلومترات، من روائح دبغ الجلود تمهيدا لتصنيعها، وشرعت الحكومة في هدمها منذ عامين ونقلت جزءا منها إلى منطقة الروبيكي الصناعية في شرق القاهرة، ضمن مشروع إعادة تهيئة للمنطقة، لكن بعض أصحاب الورش يشكون من تأخر تسلم ورشات بديلة، ما جعلهم على وشك نسيان صناعتهم بعد هجرها.
القاهرة – يترقب صالح أحمد (55 عاما) بلهفة اليوم الذي تتكرر فيه زيارة المسؤولين تمهيدا للانتقال إلى مدينة الأسمرات العصرية، أو إحدى المدن الجديدة التي تشيدها الحكومة لقاطني العشوائيات.
قبل عام زاره موظفون وتركوا علامة على منزله والمنازل المحيطة به، ضمن حصر كامل للمنطقة المختبئة خلف سور مجرى العيون البالغ طوله نحو 3 كيلومترات، في مباني متهالكة، بعضها سقط منذ زلزال 1992، ولا يزال حطامها متراكما، وأخرى كانت عششا مشيدة من الخشب، قبل أن يشد الأهالي أزرها بالطوب.
يقول صالح، لـ”العرب”، فيما يستعرض منزله الرث ذو السقف الخشبي والجدران التي تهتز كل 5 دقائق تقريبا بمجرد مرور مترو الأنفاق القريب منه، إذ يلتصق المنزل بأحد أسواره، “نتمنى أن يُغلق علينا باب منزل حقيقي. نجلس في شقة هي محط أنظار للمارة، غرف مبعثرة، وحمام في العراء من الخشب، ما أن تغادرها بناتي حتى يفاجئن بمرور بائعي المواد المخدرة والسلاح، فيعدن مسرعات”.
لا يعارض الأب الذي يعمل في إعداد الشاي وبيعه مقابل بضعة جنيهات أن يدفع إيجارا للشقة التي سينتقل إليها، “ندفع، لكن المهم أن نعيش في سكن آدمي ومنطقة آمنة”.
والأب الخمسيني كان يعمل في تشييد المعمار حتى أصابه المرض وعجز عن استكمال العمل فيه، فهجره إلى بيع الشاي، دون أن يطلب من الحكومة معاشا تكافليا.
صالح نموذج من الأهالي في المنطقة التي اشتهرت بصناعة الجلود، في تداخل غير منسجم مع تاريخها في نقل المياه إلى القلعة إبان العصر الأيوبي وما تلاه، ومنذ نحو 60 عاما انتشرت ورش المدابغ خلف السور ليصبح نفسه ساحة لعرض الجلود المصنعة أو في طور التصنيع.
وتتحول المنطقة في عيد الأضحى إلى مذبح، حيث تصبح الدماء المبعثرة وجلود الحيوانات معلقة بطول السور، في مشهد وإن كان بعض المصريين ألفوه، لكنه يثير استياء السياح واشمئزازهم.
ولا يعبأ أصحاب صناعة الجلود بالتطوير، ولا يهتمون بالسياح بقدر ما ينشغلون بحرفتهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.
يجلس رمضان زينهم ووالده وبضائعه أمام السور، بعدما هُدمت ورشته، قبل نحو 20 يوما، ولم يمنح بعد ورشة في المنطقة الصناعية، قال لـ”العرب”، “كلما سألت عن موعد منحي ورشة جاء الرد مبهما، يطلبون مني الانتظار للمرحلة الثانية التي يتم تشييدها في منطقة الروبيكي دون إفادتي بموعد محدد”.
وأضاف والده السبعيني، وقد ضاعف الهم عمره، “الماكينات التي نستخدمها في الورشة ملقاة في الشارع في مدينة الأسمرات، أتمنى لو التقطتها كاميرا، هل يجوز ذلك”.
أما الكاميرا فلا يتصالح معها نجله رمضان على النحو ذاته، إذ التقطته وهو جالس أمام السور، قبل أيام من لقائه بـ”العرب” كاميرا لإحدى القنوات الفضائية وسجلت معه على أنه أحد المواطنين الذين تم نقلهم إلى الأسمرات، ثم حرّفت مضمون ما التقطته على أنه سعيد بالشقة الجديدة دون التطرق إلى مشكلة ورشته أو مصيره الغامض.
قال رمضان، “أذيع التقرير التلفزيوني وهو يستهجن وجودي في السور لاعتبارات السياحة والتاريخ، لكنه لم يتطرق إلى وضعي الإنساني والمعيشي، أو ما تدره تلك الحرفة على الدخل القومي، أو ما صنعه وجودنا من صبغ المنطقة بالحرفية بدلا من انتشار البلطجية”.
ويقول عادل موهوب، وهو أحد أصحاب الورش المهدمة، “هناك نحو 67 ورشة تم هدمها دون تعويض أصحابها حتى الآن”.
رمضان بالنسبة إلى موهوب أفضل حالا، لأن الأخير هدمت ورشته قبل أكثر من عامين، ولم يُمنح وحدة بديلة، ما جعله عاطلا عن العمل بعدما كان صاحب حرفة.
حال موهوب أفضل من غيره، حيث أنهى أبناؤه تعليمهم، أما المئات من الأسر الأخرى التي تأثرت بهدم تلك الورش، فلا يزال الأبناء في مراحل التعليم.

ويترقب أصحاب الورش خبر نقلهم إلى منطقة الروبيكي، لكن ذلك لا يمنع القلق من قدرتهم على الاستمرار في الصناعة بعد الانتقال إليها، في ظل أخبار تتطاير من زملائهم ممن نقلوا عن ارتفاع أسعار تكلفة الحياة بعد النقل.
وتؤكد الحكومة المصرية، أن نقل العاملين في مجال الجلود إلى الروبيكي أسهم في تحسين مستوى الحرفة وزيادة إنتاجها، فضلا عن تكاملها، إذ تضم المدينة ورشا للأحذية وصناعات أخرى تستخدم الجلود.
ويتبنى سعد البرديسي، وهو تاجر جلود حيوية مشروع الروبيكي، حيث أكد أن “المشروع جيد ومتكامل، المشكلة في جائحة كورونا التي أثرت على كل شيء”.
بين النموذجين، المستفيد والمتضرر، ممن هجر سور مجرى العيون، يوجد نموذج ثالث من الأهالي، يسعدون بشققهم الجديدة المنمقة التي نقلوا إليها، غير أنهم قلقون على مستقبل أبنائهم فيها، لأن تلك الوحدات لا تورث.
أشار سائق سيارة أجرة لـ”العرب”، وهو أحد من نقلوا إلى الأسمرات، إلى أن المكان جميل للغاية، ويشعر بتواجد الأمن، فمن يخرج من منزله ليلا يسأل عن وجهته، لكن المشكلة الغموض الذي يعتري وجوده ومصيره، فالسكن بالشقة يندرج ضمن حق الانتفاع ولا تورث، وله طفلتان، ويخشى أن يأتي أجله فيما تُلقى الطفلتان في الشارع، وطالب الرجل الحكومة بتمليك تلك الوحدات، واتخاذ الإجراءات اللازمة كي لا يبيعها المستفيد منها.
التقت “العرب” بالسائق فيما يصلح سيارته عند إحدى الورش في منطقة سور العيون، صاحبها لا يقل قلقه عن السائق، فورشته ستهدم قريبا وقد لا يصبح له الحق في الحصول على ورشة غيرها.
وما أن يترك المارة سور مجرى العيون من الجنوب، حيث منطقة المنيل، في اتجاه شماله، حتى يجدوا أن كل تلك المشاهد والحياة الصاخبة هدأت لتحل مكانها حطام المنازل المهدومة وبنايات جديدة، يراها الأهالي عبارة عن مشاريع استثمارية تشيّد على حساب بيوتهم، فيما تؤكد الحكومة أنها نقلة حضارية للسكان.
ولفت وزير الإسكان والمرافق المصري، عاصم الجزار، إلى أنه تم التغلب على جميع العقبات التى واجهت تنفيذ المشروع “تطوير مجرى العيون” الذي يضم عمارات سكنية لائقة.
وتولي الحكومة مشروع تطوير منطقة سور مجرى العيون اهتماما كبيرا، والذي يقع على مساحة 90 فدانا، وتشمل أعمال التطوير إنشاء مسرح مفتوح ومول تجاري وفندقي ومطاعم وكافتيريات وبازارات سياحية.
