الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي يدعو إلى مقاطعة نيتشه

كيف يمكن أن تكون نيتشويا في عصر الذكاء الاصطناعي.
السبت 2023/09/02
ما هي صورة نيتشه بمعزل عن المغالطات والمبالغة

في العقود الأخيرة تعاظم حضور الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه بشكل كبير، خاصة من خلال المقولات المقتطعة من نصوصه وشذراته. استحضار نيتشه لا يخلو من مغالطات حول شخصه وفلسفته، رغم ما له من مبرر لاستحضار صوته المتمرد ومطرقته الهادمة للتكلس اليوم، ولكن ليس الأمر بذلك اليسر كما يوضح الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي.

وسط أجواء يسود فيها الشك والريبة بجدوى الفلسفة وصلاحيتها لعصر العلم لا يزال الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه يسجل الحضور بأفكاره المدوية، ويشد الاهتمام على نطاق واسع بآرائه المعادية للوثنيات الحداثوية، ولا يصح أن يفهم هذا الموضوع باعتباره مجرد تسديد الدين لشخص لم ينصف في زمنه. بل لأنّ صاحب “هكذا تلكم زرادشت” واضح وجريء في تشخيص أعراض المعاناة الإنسانية وما يعنيه إرجاء الحياة من الكوارث بالنسبة للفرد والمجتمع.

كشف نيتشه غطاء لسرداب من المشاعر التي ما فتئ الإنسان يتنكر لها تحت شتى التسميات والشعارات مثل الشفقة والثورة والإيثار، لذا لا يعود الفيلسوف إلى المشهد الفكري من بوابة السرديات التاريخية على غرار الفلاسفة الذين كملوا حلقات بعضهم البعض، فيما راق لصاحب “ما وراء الخير والشر” التقويض وقلب القيم، وكان كارل ياسيبرز محقا في قوله إنّ “نيتشه ليس فيلسوفا مثل الفلاسفة الآخرين، بل هو شيء آخر كليا إنه ‘حدث'”.

الفيلسوف المحاصَر

ميشال أونفراي يرحل في كتابه "الحكمة التراجيدية" نحو عالم نيتشه ساعيا للإبانة عن خصوصية صوته الفلسفي

يرحل الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه “الحكمة التراجيدية” نحو عالم  نيتشه ساعيا إلى الإبانة عن خصوصية صوته الفلسفي متطلعا إلى حسن توظيفه بعدما أسيء إليه في حقبة تاريخية معينة.

يسرد أونفراي في المقدمة قصة كتابه، فقد كان مخطوطه مرميا في الركن لردح من الزمن قبل أن يرجع إليه، والسؤال الذي راوده عندما كان بصدد مراجعة المحتويات هو هل تعد هذه الصفحات خطأ من أخطاء مرحلة الشباب؟ ويؤكد في ذات السياق أنّه لم يحذف من المضمون، وما يقوله في هذه الحيثيات يوحي بأنّ نيتشه ركن أساسي في مشروعه الفلسفي، والأهم في هذا الإطار هو ما يخلص إليه المؤلف بأنّ الفهم الفعلي للفيلسوف لا يتم إلا بالنظر إلى مغامرته الحياتية الذاتية وبالبطع تتمثل سيرة نيتشه لهذه القاعدة أكثر من غيره.

لا يتنصل أونفراي عن خلفيته اليسارية لكن ذلك لم يحل دون التعمق في عالم الخصم اللدود للاشتراكية الماركسية، لأنّ نيتشه، حسب قراءته، من الفلاسفة القلائل الذين توسع لك صحبتهم وعشرتهم فرصة بناء كيان وجودي وتذوق معنى الحيوية.

ينصح أونفراي بأن لا نستخف بالخصوم إذا أتاحت لنا انتقاداتهم معرفة صورة أفضل عن ذواتنا. لا شكّ أنّ هذه المرونة تجنب العقل مغبة الانزلاق نحو شرك الجمود والتآسن.

النغمة الاستثنائية في روح نيتشه تتمثل في نبذه للوصايا التي تنص على التزهد وفصل الجسد عن طاقاته الفاعلة فهو يحتفي بديونيسوس وبكل ما يكثف الالتذاذ بالحياة، يحتفي بالمسرح والموسيقى والكتابة والرحلات والاستعمال المفرح للجسد. وهذا ما يجعله متفردا من بين أقرانه ونبرة شذراته البليغة لا تشبه كلامهم المحنط ولا تنظيراتهم المجردة، هذا ليس كل ما يمكن قوله عن التناول الأحدث لحياة وفلسفة نيتشه، بل الملمح الأبرز في منهاج أونفراي هو عدم التقيد بالتفسير الأكاديمي، إذ يؤثر تقديم صورة منسقة عن نيتشه بمعزل عن نسخ متعية أو يسارية أو تحررية علما بأنّه من السهل إيجاد مسوغات لكل ذلك من خلال الاقتباسات المنتزعة من سياقها النصي.

نيتشه من الفلاسفة القلائل الذين توسع لك صحبتهم وعشرتهم فرصة بناء كيان وجودي وتذوق معنى الحيوية

يعتقد أونفراي بأنّ العوامل العديدة قد تدخلت بيننا وبين نيتشه منها الحرب العالمية الأولى والثانية والآيدولوجيات والتأويلات المشوهة، هذا إضافة إلى الدور التدميري لشقيقته إليزابيت فورستر، إذ سوقت بالتطواطؤ مع التيار النازي الصاعد في ألمانيا للخلط المضلل بين المهاترات ومفهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى. وخالفت وصية شقيقها عندما طلب منها أن يدفن بعيدا عن جلبة الفضوليين والكهنة، فقد أبت إلا أن تشيعه في أجواء كهنوتية بامتياز.

بعد التحكم بجسد نيتشه تفرغت إليزابيت لأوراقه ومسوداته فصنعت من أخيها مفكرا يمكن للمعسكرات المعادية لمعسكره تطويعه لصالحها، والأسوأ في سلسلة التعسفات التي اقترفتها إليزابيت بحق شقيقها، حسب رأي أونفراي، هو الترويج للفورهر بأنّه نسخة من الكائن المتفوق الذي كان يؤمن به نيتشه.

ولم تكتف بذلك بل أهدت للرايخ الألماني الجديد العصا التي تعود إلى صاحب “العلم المرح”، ومن ثمّ يبادر جيش من المفكرين لتكريس صورة نيتشه مرتديا زي الضباط النازيين، كما أخذ لدى الماركسيين مثالا للمفكر الرأسمالي والبرجوازي المضمحل. أضف إلى هذه التوظيفات المسيئة لمشروعه الفلسفي المعاناة التي كابدها نيتشه في حياته مع المرض والوحدة، ومن ثمة ستدرك بأنّه كان محاصرا من جميع الجهات.

النغمة الاستثنائية في روح نيتشه تتمثل في نبذه للوصايا التي تنص على التزهد وفصل الجسد عن طاقاته الفاعلة

لم تتوان المؤسسة الفلسفية عن محاربة نيتشه وذلك لا يستدعي الشعور بالاستغراب لأنّ المؤسسات لا تريد إلا التبعية ولا تنشأ على كنفها سوى أفكار تقليدية. ومن المؤكد أنّ القفز على الأسيجة دائما يثير عاصفة من ردود الفعل المستنكرة. والحال هذه لا شيء أكثر مدعاة للسخرية من توظيف نيتشه لأغراض مؤسسية منها المؤسسة السياسية، لأنّ الحقل السياسي لا تعمل فيه غير العقول الوضيعة، لذا فقد دعا إلى الابتعاد عنه والمحافظة على النقاء من الأدران المتأصلة في هذا المستنقع.

وتستشف مما يصرح به نيتشه على لسان زرادشت أنّه كان رافضا للحرب والاحتفال بسفك الدماء، وذلك كله من ترسانات تعبوية في الفعل السياسي “كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أنّ الدماء تقوم شاهدة الحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم، لأنّ الدم يقطر سما على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وأحقاد”.

ولا ترتقب فلسفة نيتشه من الشعب المصاب بالتعصب السياسي والقومي سوى الانغراز في وحل التبلد. وفي أدبيات فيلسوف الريبة تحذير من الركون إلى أي شخص، وإن كان أحب الأشخاص إلينا، فكل شخص هو سجن وانزواء أيضا ولا يعادل هذا الخطر إلا الركون إلى الوطن وإن كان أشدّ الأوطان معاناة وأحوجها إلى المعونة، لأنّ الوطن في نهاية المطاف ليس أكثر من بلاغة المتحاربين الأميين. والمتأمل في هذا الخط الفكري الواضح والمتخفف من الأوهام العنصرية يتأكد أكثر بخطأ ما أسفرت عنه القراءات المغرضة لفلسفة نيتشه والتحامل عليه، والقول بأنّ أفكاره قد رشت التربة ببذور النازية وتأليه الزعيم ليس إلا هراء.

جوهر الحياة

u

ما يضاعف من حرارة هذا النص الجديد حول نيتشه أنّ ميشال أونفراي تناول فلسفة نيتشه بلغة شيقة تكشف عن عقلية سائحة في مجرة من الأفكار المتناثرة في مؤلفات فيلسوف الإرادة. ومن المعلوم أن قيمة نيتشه لا تكمن فحسب في انشقاقه عن تاريخ الفلسفة المثقل بالأنموذج وشنه حربا لا هوادة فيها على المومياوات الفكرية، بل يستمد نبوغه من الالتفات إلى ما هو من جوهر الحياة ولكن نادرا ما تصادفه على طاولة سدانة الحكمة.

ومن يتصدر تراتبية سلمه في تصنيف الفلاسفة هو الأقدر على الضحك الذهبي، وترى على رأس قائمته ديوجين وإمبييدوكليس ومونتاني، ومن الواضح أنّ نيتشه يتقاطع في هذا المنحى مع نظيره اليوناني ديموقريطس، فالأخير كان يعتقد بأنّ الضحكة هي لسان الحكمة، وما يكسب النفس خفة في برنامج نيتشه هو الرقص المرتبط بالضحك، لذلك يعد كل يوم لا يرقص فيه الإنسان ولو مرة واحدة يوما مفقودا والحكمة التي لا تستدعي ولو قهقهة ضحك ليست إلا بيانا باطلا.

يعلق أونفراي على مفهوم الرقص لدى نيتشه موضحا بأنّ هذه الحركة هي خداع للمكان واستهزاء بالثقل ولعب مع الجسد والأحجام ومحاكاة للطيران. وللموسيقى منزلة مرموقة في أجندة هذا المشاء المصاحب لظله إذ صرح بأنّ الحياة المفتقرة إلى الموسيقى هي خطأ وعمل شاق ومنفى.

علاوة على كل ما سبق ذكره من الفتوحات والإنارة لأصقاع معتمة تغافل عنها المغامرون في جغرافية الفكر، فإنّ نيتشه في طليعة الفلاسفة الذين أدركوا دور الأطعمة والمناخ على المزاج والعقل، يقول في “هذا هو الإنسان” إنّ اهتمامه بالنظام الغذائي يفوق دقة أي لاهوتي. لافتا إلى علاقة التحرر من أخلاقيات متشنجة بأنواع الأطعمة.

تطيب مرافقة أونفراي في نزهته الفكرية في عالم نيتشه، غير أن الاسترسال في الحديث ممل ومن الضروري الاكتفاء بكتابة كلام يفيدنا في حياتنا اليومية. لعلّ بهذا ما يستوفي الغرض هو قوله “لنكن شعراء حياتنا ولنكن كذلك في أدق التفصيلات وأكثرها ابتذالا”. يتدخل صوت مستفسرا هل هذا كل ما عليك القيام به لتكون نيشتويا؟ هل أنت من دعاة النيتشوية؟ أن تكون نيتشويا يعني أولا أن تغدو نفسك وتمشي وحيدا ولا يرتجف قلبك من النظر إلى سماء مثقلة بغيوم داكنة. وأن تقول نعم للحياة وتصنع من أيامها العادية ما هو استثنائي. وتمتحن العقائد والثوابت والكتب بعاصفة من الشك أي فائدة من كتاب لا يستطيع أن يمضي بنا إلى ماوراء الكتب؟

ويضيف أونفراي “أما عن الدعاة والدعوية فهذا لايتفق مع روحية نيتشوية لأنّ التلميذ لا يحسن مكافأة المعلم إذا ظل فاغرا فمه بما يسمع منه. تدخل الصوت من جديد مطالبا بترشيح نخبة من مؤلفات نيتشه. وما مني إلا أن اقترحت له مقاطعة نيتشه ليس لأنّ الذكاء الاصطناعي قد طوى زمن الفلاسفة كطي فوكوياما لسجل التاريخ. بل توفيرا لعناء الاصطدام مع الظواهر المرضية التي استفحلت في البيئة المجتمعية. هل تخوض معارك دونكيشوتية؟ ومن ثمّ ألا ترى بأنّ في تبعيتك للديناصورات المعاصرة وأنت تترنم بمقتبسات من كتب نيتشه تسيء إليه وتجعل من فلسفته مسخا وتهريجا؟ كما أنا لا أحب أن يلعب الوهم بالرؤوس وتتخيل بأنّه يمكن القضاء على وباء الاستعراض الذي يفتك بالعالم. يستشيط الصوت ساخطا إذا كان الوضع على هذا المنوال ما مغزى ثرثرتك عن نيتشه؟ أعربت عن أسفي لكن لم يقتنعْ. وأنا ختمت كلامي بأنّ كل ما يمكن عمله راهنا هو أن نتحسس رأسنا”.

12