الفن وسيلة لفهم ما لم يستطع العقل معالجته

فنانون تصدوا للأزمات بشجاعة المقاتلين من أجل الإنسان.
الأحد 2020/08/23
الفن منقذ البشرية في الأزمنة الصعبة

في اللحظات الأكثر صعوبة في حياة الناس يمكن التماس قدر كافٍ من الوضوح من أجل اتخاذ قرارات من شأنها الدفع بالإنسانية إلى برّ الأمان في ما بعد الأزمات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والبيئية التي يعاني منها العالم يوميا، وبالنسبة إلى العديد من الأشخاص الذين يبحثون عن مخرج، يأتي الفن كمحفز قوي للتغيير في مواجهة المعاناة.

هناك من يؤمن إيمانا بالغا بأن للفن القدرة على تحدي قوى الشر والأزمات وتخفيف الألم، بقدر ما يمكنه أن ينتج حقائق بديلة عن الهروب، ويصبح صوتا لأولئك الذين لا يسمع بهم أحد.

نحدد تجربتنا البشرية من خلال العادات والتفاعلات الاجتماعية والأنشطة التي نخلقها ونشارك فيها، وتغذيها الفنون سواء كانت الموسيقى أو الطعام أو الفنون المرئية، لهذا نشهد تحولا متزايدا للفنون خلال جائحة كورونا على الصعيد العالمي، إذ تحولنا إلى الانخراط في الفن كمصدر للراحة والقوة، على اعتبار أن المشاركة في الفن ومشاهدته تجعلاننا نتواصل مع تجربة إنسانية عالمية، سواء كان من داخل أعمال فنية بالمنزل أو الجداريات العامة أو مشاهدة المسرحيات أو الاستماع إلى الموسيقى أو الاهتمامات الجديدة في فنون الطهي، فإن الفن هو تعبير عما يعنيه أن تكون إنسانا.

الفن حاجة إنسانية

ليس من السهل تجسير الهوة بين الأمل والكوارث لكن صناعة الفن ومشاهدة تجلياته تتيحان فرصة لتقييم ومعالجة تجاربنا الإنسانية كما تساعداننا على التعبير وفهم العالم من حولنا وخلق فسحة من الأمل، وتاريخيا، كان البشر كائنات تعبر عن احتياجاتها ومعيشها بصريا حيث لم يسجل قدماء البشر حياتهم من خلال الفن فحسب، بل استخدموا أيضا الفن للتعبير عن أنفسهم.

الفن أداة مثبتة لتقليل التوتر، فهناك عدد من الدراسات تتناول فوائد عقلية وجسدية وروحية للأعمال الفنية، حيث إن صناعة الفن والتفاعل معه لهما تأثيرات طويلة المدى مثل تعزيز وظائف الدماغ وأنظمتنا المناعية بالإضافة إلى المساهمة بشكل إيجابي في صحتنا العقلية والعاطفية، كما يساعداننا على معالجة الصدمة والتعبير عن المشاعر الصعبة والعمل من خلال الإفادة من الاحتكاك مع التجارب. وفي وقت الأزمات عندما يفتقر العالم إلى التعاطف البشري الأساسي ترتفع أسهم الفن باعتباره الطريقة المثلى لإضفاء الطابع الإنساني على محنة الإنسان في الأزمات من أمراض فتاكة كالإيدز والسرطان فالمخدرات ثم الاوبئة كالتي تتسبب فيها فايروسات كإيبولا وسارس والكوليرا وصولا إلى الأزمات التي تخلقها الهجرات والنزوح الكثيف للسكان بفعل التدمير الذي تخلقه الحروب الأهلية وآخرها ما حدث بسوريا حيث تسببت في فرار 6 ملايين شخص من البلاد للبحث عن الملاذات الآمنة.

يتيح لنا الفن أن نرى أنفسنا وهوياتنا داخل مجتمع أكبر وأن نشعر بالراحة في محيطنا، ونبقى في نطاق الهجرة حيث يوجد حاليا 25.4 مليون لاجئ حول العالم، وهو أعلى رقم شهده العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واقع جعل الفنان الصيني المنفي أي ويوي، يقوم بإنشاء سلسلة من الأعمال الفنية التي كشفت عن الوجه الآخر للنزوح البشري الذي يؤرخ له الفنان من خلال تجاربه الخاصة كلاجئ.

في الوقت الذي يتم التصدي للتفاوتات الاجتماعية التي كانت موجودة دائما والتي أضحت أكثر بروزا في العقود الأخيرة وملفتة للنظر مع جائحة كورونا، نرى أن الفن يستخدم كأداة للمساهمة في إنشاء مجتمعات أقوى، حيث يمكن له أن يسمح لنا ليس فقط بفهم أنفسنا، ولكن بفهم بعضنا البعض على مستوى أعمق.

صناعة الفن ومشاهدة تجلياته تتيحان فرصة لتقييم ومعالجة تجاربنا الإنسانية، كما تساعداننا على التعبير وفهم العالم

لهذا يمكننا جميعا فهم وتفسير الصور والرسومات، بغض النظر عن اللغة التي نتحدثها، فإذا كان الفن ككل لا يتجزأ يوثق واقعا بشريا بكل تفاصيله المتباينة والمتناقضة، نجد نان غولدن المصورة الأميركية، قد استخدمت عدستها لتصوير عدد من الأزمات منها توثيقها المبكر لأزمة الإيدز في الثمانينات إلى يوميات إدمانها على الأفيون حيث أصبحت صورها ولوحاتها حوارا مفتوحا حول واقع محزن ومظلم للإدمان على المخدرات.

بسبب أزمة فايروس كورونا المستجد تم إلغاء التجمعات الكبيرة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك عروض المسرح وحفلات الرقص والأحداث الموسيقية والمعارض الفنية، وعلى الرغم من ذلك كانت منصات التواصل الاجتماعي فرصة سانحة لعروض افتراضية، وهذا لا يمكّننا من تقييم كلي لمزايا الفن في زمن كورونا، إلا أننا نشهد بالفعل فنانين شرقا وغربا تفاعلوا مع الوباء، وتأقلموا مع حدود عالم مغلق عندما أبدعوا سبلا جديدة لمشاركة أعمالهم.

الفن متاح منذ فترة طويلة عبر الإنترنت، ولسنوات حتى الآن استخدم بعض الفنانين وسائط تواصلية كفيسبوك وإنستغرام للترويج لأعمالهم وحتى تحديده، لكن الإغلاق الذي تسببت فيه كورونا لأشهر عمل كحافز أجبر الكثيرين على اللجوء إلى العالم الرقمي لعرض كافة أشكال الأعمال الفنية. يمكننا التعامل مع الفنون عبر الإنترنت للتواصل بشكل أعمق مع القضايا والأحداث الحالية، ويستلزم واقع الحياة وسط جائحة أن يكون للعالم الرقمي دور محوري كوسيلة لمشاركة الفن والوصول إليه، سواء اعتقدنا أن هذه الحالة إيجابية أم لا، ولا شك أنه من اللافت للنظر رؤية المدى الذي نتجه فيه نحو تثمين أدوار الفن في هذا الوقت المزعج وغير المسبوق.

فعندما تكون خياراتنا الواقعية محدودة للغاية، فإن اختياراتنا الرقمية تقول الكثير عنا، كما يثبت الفن رصيدا لا يقدر بثمن لفهم العالم والبحث عن العزاء في أوقات مربكة كالتي نعيشها في الوقت الراهن، لهذا السبب لم تكن كورونا كأزمة عالمية حائلا دون أن تستضيف المعارض الافتراضية والمتاحف على الإنترنت إلى جانب محادثات الفنانين بجميع تشبيكاتهم ربما تكون فرصة أخرى لنهضة فنية وإنسانية وسط المعاناة.

التجربة المشتركة

الفن فعل إيماني يمكّننا من التماهي مع الحياة بكلّ مآسيها وعيوبها
الفن فعل إيماني يمكّننا من التماهي مع الحياة بكلّ مآسيها وعيوبها

يواجه الجنس البشري حاليا أكثر الأزمات حدة على نواح عدة صحية واقتصادية ونفسية، صعوبات تذكرنا بالحربين العالميتين الأولى والثانية، ففي أوقات الأزمات كان الفن في الكثير من الأحيان وسيلة للشفاء والمرح والتفاؤل، لكن مرت أشهر منذ أن انتشار كوفيد – 19 ولا تزال المسارح في شتى بقاع العالم مقفلة، والمعالم التاريخية في المدن الحضارية لا يمكن الوصول إليها، حتى صناعة الأفلام توقفت.

كل فن عظيم هو نتاج المشقة والمعاناة وانعكاسا لمرحلة أزمة حقيقية، وعليه فقد برزت لوحة بيكاسو – غرنيكا – المشهورة على نطاق واسع باعتبارها واحدة من أعظم اللوحات المناهضة للحرب الأهلية الإسبانية، كما نتجت عن الحرب العالمية الأولى السوريالية، والوجودية بعد الحرب العالمية الثانية، فتجربة الحرب العالمية الأولى تميزت كمرحلة من العنف الشديد والتقلب وتعد من أكثر الأوقات اضطرابا في تاريخ البشرية، لكنها تجربة احتوت في ثناياها بذرة فنية قوية تمثلت في تيارات الواقعية السحرية والتعبيرية الجديدة عرفت ازدهارا كبيرا في ألمانيا التي كانت في حالة صدمة قاتلة للاقتصاد والحياة الأسرية.

أزمة كانت سببا في بروز أوتو ديكس الذي عمل جنديا في الجبهة لكنه أراد ترجمة ما عاشه في لوحات فنية حيث صور المدنيين المحطمين في شوارع برلين، مع إحساس بالألوان الداكنة التي تسيطر على كل لوحة لتعطي معنى آخر لعمله وحياته، فكان الفن بالنسبة إليه وسيلة لفهم ما لم يستطع العقل معالجته في تجربة الحرب وطريقة للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه.

الفن درع لمواجهة الحقائق البشعة الناتجة عن الحروب والأزمات، والاعتراف بالجمال في حياة الناس في جوهرها، فالصورة والكلمة المكتوبة، تكون الطريقة الوحيدة التي يمكن للفنانين والمبدعين من خلالها نشر معاني الارتباط والتضامن والتعاون المفروض أن يعيشه الناس في جميع أنحاء العالم، ويضحي بذلك الفن منفذا شاملا للتجربة الإنسانية ومنارة أمل وتغيير إيجابي مفتوح للجميع.

بينما يصبح العالم مستنقعا من القلق والخسارات المتعددة، يتفق الفنانون على أنه من المهم قضاء بعض الوقت في التعرف على كل أشكال الفن ولِمَ لا المساهمة في الإبداع داخل غرفة المعيشة أو المكتب أو على سطح المنزل وحديقته؟ باستخدام قلم الرصاص وصفحة بيضاء، لترسم صورة لكلب جارك أو كأس شاي أو قطتك، أو قم بعمل منحوتة من الطين مع أطفالك أو أشقائك، أو حتى تصفّح مواقع الفن المتاحة على الإنترنت.

إن الفن بكل أشكاله إبداع شخصي وخلق واقع يدعم دوما الحالة الإيجابية في فترة الأزمات حيث يواجه الفنانون حول العالم مصدر إلهام جديد وغير محتمل كوعاء للحرية، وبالتالي لا تفرض الأزمة ما يمكن تسميته الإغلاق العقلي فهي تتيح الوقت لاستمرارية الإبداع على أوسع نطاق.

قبل فايروس كوفيد – 19 كانت أزمة تلوث المناخ تلقي بظلالها الثقيلة على حياة البشرية، كانت سببا في خروج مظاهرات ومسيرات مناهضة للاستغلال المفرط للطبيعة، وضد الشركات الصناعية التي لوثت الأرض والمحيطات لنخلص إلى أننا نواجه واحدة من أكبر الكوارث في تاريخ كوكبنا والتي ستتسبب في تدمير البيئة والانقراض الجماعي، ليطرح السؤال إذن حول دور الفن في حماية الطبيعة.

الإجابة قد تكون موحدة عند جميع الفنانين بمختلف تكويناتهم ومدارسهم ومجالات اشتغالهم، بأن الفن لغة تعبيرية مشتركة تعبر عن المعيش وتعمل كرافعة ثقافية وإنسانية تنقل متلقي الرسالة من حالة وجدانية ونفسية وواقعية إلى حالة أكثر تفهما وتعايشا مع متقلبات الحياة، والفن كما تراه التشكيلية سارة أحلالوم، رسالة تتلخص في ربط العلاقة بين الطبيعة وحياة الإنسان عبر العصور، فمن خلال هذا العمل الفني الذي نفذته حاولت إبراز هذه العلاقة باستحضار واحدة من عجائب الدنيا السبع "الحدائق المعلقة" كدليل قوي على العلاقة التي تربطنا بالطبيعة الأم منذ الأزل.

ودائما يطرح المتلقي عند مشاهدته لوحة تشكيلية سؤال ماذا يريد الفنان أن يقوله؟ واستنادا إلى إروين بانوفسكي، يبرز العالم الأنثروبولوجي الفرنسي فيليب ديسكولا، مدى أهمية اختراع المنظور الخطي في اللوحة بين اللون والنور والظل في النصف الأول من القرن الخامس عشر، كشكل رمزي جديد، أوجد علاقة جديدة بين الموضوع والعالَم الذي ينطوي على لقاء وجها لوجه ونظرة جديدة يبتكرها الفنان قد تكون علاقة أيديولوجية جديدة بالطبيعة والإنسان.

وعليه من الصعب فهم حجم حالة الطوارئ الصحية التي نواجهها، أو مدى تغير حياتنا اليومية، دون الاعتراف بما للفن من قدرة على محاكاة المستوى المعيشي للإنسان وإثارة عواطفه التي يمكن أن تعطينا معرفة عميقة ليس من السهل تجاهلها. وعليه يعتقد بعض النقاد، أن جميع الأشكال الفنية لديها القدرة على مساعدتنا في رؤية أعمق وربطنا بقوة أكبر مع الواقع من حولنا في هذه الأوقات، كما يمكن أن تكون قدرة الفن على قول الحقيقة بهذه الطريقة جد متقدمة.

أصيلة تتحدى بالألوان

الفن يصد الأزمات
الفن يصد الأزمات

 هذا وقت لتقدير الفنون بجميع أشكالها ومنها الجداريات على اعتبار ما يحدثه الفن من فرق في كيفية عيش حياتنا، حيث تخلق الفنون العافية في حياتنا اليومية من خلال مساعدتنا على معالجة حياتنا بشكل فردي والسماح لنا بالتجمع بشكل جماعي، كما يتيح لنا الفن التواصل عن بعد وتوليد حالة من الإيجابية والتقدير والأمل خلال الأزمات وفي أوقات الاضطرابات لكونه يركز على الأصوات والرسائل المهمة. ولم تكن أزمة كورونا إلا حافزا آخر لإبقاء مدينة أصيلة المغربية على المحيط الأطلسي، وفية لتراثها الفني والثقافي الذي يمتد لعقود طويلة، بإقدام القائمين عليها بسلسلة من التظاهرات الفنية المنظَّمة من قبل مؤسسة “منتدى أصيلة” بين 15 و31 يوليو الماضي، ومنها الصباغة على الجداريات بمشاركة 14 فنانا من جيل المبدعين المغاربة كوسيلة للتعافي من تداعيات الجائحة.

قطع فنية مثيرة للتفكير وهي تركيب غامر يحاكي جودة الحياة وتحدّ لكافة أشكال الإحباط والموت البطيء، في سلسلة من الألوان المترابطة بكثير من الدقة والأناقة، حتى وإن غاب الزوار عن المدينة فهذا لا يعني عدم استشعار سكان المدينة عبق تلك الجداريات واللوحات، ولا بدّ أن تصل تلك النبضات إلى المتذوقين عبر الفضاء الإلكتروني، خصوصا وأن فقدان الجمهور كان كارثيا على الفضاءات التي تحمل الهمّ الفني، ولكن الفنانين والمعارض الفنية بأكملها انتقلت إلى الساحة الرقمية ما يعطينا فكرة واضحة عن ضرورة صناعة الفن في أوقات الأزمات.

انتشار فايروس كورونا تسبب في بقاء جل الفنانين في بيوتهم لكن جلهم لم يقطعوا علاقتهم بالرسم والألوان، تجربة مرت منها شعلة الخراز، الفنانة التشكيلية المغربية، عندما ساهمت بفن الجداريات في مدينة أصيلة، وما الجداريات عندها سوى نبض آخر لمساعدة زوار المدينة في التغلب على اكتئاب كورونا وطرد الطاقة السلبية بعمل تشكيلي فني يسعدهم، لذا قررت رسم جدارية بمساعدة ابنتيَّ؛ إيمان وياسمين.

الفن هو فعل إيماني يمكّننا من التماهي مع الحياة بكلّ مآسيها وعيوبها، وهو فعل يمكّن من تحسينها من خلال إبداع شيء جديد يغير من وضع العالم، هناك من ليس متأكدا من أننا سنعود إلى ما كانت عليه الحياة قبل بضعة أشهر فقط، لكن اليقين الغالب أن الفنانين سيظلون جزءا حاسما من أي جديد نبتكره، وهذا ما دفع الفنان المغربي معاذ الجباري إلى أن يبدع بإلباس الموناليزا للإيطالي ليوناردو دا فينشي، كمامة واقية، وهو ما يعكسه الوضع الحالي الذي يعيشه العالم، حسب فهمه خاصة أن إيطاليا كانت أكثر دول العالم تضررا من هذا الوباء الفتاك.

وإذا كان الفن يسمح لنا بفحص ما يعنيه أن نكون بشرا وأن نتكلم وأن نعبّر عنهم وأن نجمع بين الناس والأفكار، فقد أطلقت مجموعة من الفنانين البحرينيين الذين شاركوا في فعاليات سابقة من منتدى أصيلة الثقافي الدولي، مبادرة افتراضية برسم جدارية افتراضية مشتركة تعبيرا عن دعمهم للجهود التي تقوم بها مؤسسة منتدى أصيلة لاستمرار نشاطها رغم الظروف التي فرضتها جائحة كورونا. وتأتي المبادرة تأكيدا من البحرينيين على أهمية استمرار العمل الثقافي والفني لنشر رسائل المحبة والمودة والتعاضد بين الشعوب.

14