الفن في احتكاكه المباشر مع الجمهور.. من حضر ليس كمن سمع

الحديث عن جمهور تونس معقد وشائك وإشكالي إلى حد التناقض.
السبت 2023/08/19
الجمهور التونسي اختبار فني صعب

علاقة التونسيين على غرار بقية سكان الحوض المتوسطي بالموسيقى علاقة عميقة للغاية، لا تتوقف عند التذوق بل هي حالة فنية ونفسية ومزاجية كاملة، فيها الرقص والتماهي والانفعال وغيرها من الظواهر التي تجعل الفنان الذي يقف أمام هذا الجمهور يؤدي اختبارا غاية في الصعوبة.

المهرجانات الصيفية في تونس ليست بذخا فنيا، ولا حالة مناسباتية طارئة كما في بعض الدول العربية، وإنما هي تقليد اجتماعي ترسّخ عبر أجيال متعاقبة، ورسخ في أذهان الناس حتى في أصغر المدن والبلدات البعيدة عن العاصمة.

صحيح أن الهيئات الملحقة بوزارتي الثقافة والسياحة قد كرّست هذه المهرجانات وعمّمتها على كامل تراب الجمهورية ضمن خطة تنموية بدأت مع بداية الاستقلال الوطني، لكن مثل هذه الاحتفاليات ضاربة في القدم بعمقها المتوسطي، وكل ما تعنيه الميثولوجيا القديمة من طقوس وإشارات تجعل الفرد في هذه الاحتفاليات كائنا احتفاليا بامتياز.

الاحتكاك بالجمهور

مهرجانات تونس الصيفية هذا العام، تعج بمشاكل وظواهر تخص الشكل والمحتوى، مما يكشف عن سؤال جوهري يتعلق بعلاقة الفنان مع جمهوره على أرض الواقع، وليس من خلال الألبومات والتسجيلات، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي.

سكان منطقة حلق الوادي، مثلا، في الضاحية الشمالية لمدينة تونس، أحيوا مساء يوم الخامس عشر من أغسطس كما في كل سنة، ما يعرف بـ“خرجة المادونا” والتي ترمز للتسامح بين الأديان في مشهد احتفالي بهيج، شاركهم فيه العديد من الزوار والسياح.

ويحتفل بهذه العادة  للإعلان عن نهاية السباحة في البحر حيث ينكفئ الناس، نسبيا، عن السباحة بسبب ظهور “الحرّيقة” (قناديل البحر) كما تظهر الدوارات المائية الخطرة، مما يدل على التصاق غريب بين السلوك الاجتماعي اليومي والاحتفاليات التي يشاركهم فيها سكان الضفة الجنوبية للمتوسط.

تت

تحيلنا هذه التقاليد الضاربة في القدم إلى علاقة الفرد التونسي بالمهرجانات، وارتباطه الوطيد بطقوسها، من ذلك على سبيل المثال حضور عروسين إلى حفل الفنانة لطيفة العرفاوي التي أوقفت وصلتها الغنائية لترحب بهما مع الجمهور.

أمثلة كثيرة يمكن إيرادها حول علاقة التونسيين بالمهرجانات والفنانين الماثلين على المسارح الغنائية، وهي علاقة لا تخلو من الشوائب، بحكم لغة الاحتكاك المباشر وما يتخللها من إشكاليات ضمن هذه الأجواء المتوسطية الساخنة، على عكس ما يبدو لدى سكان المناطق الباردة.

 اللقاءات والاحتكاكات المباشرة بين الفنان وجمهوره على المدرجات ومسارح الهواء الطلق مع كل ما يرافقها من تفاعلات، إيجابية كانت أم سلبية، تعكس مسألة في غاية الأهمية وهي حقيقة هذا الفنان على سجيته دون رتوش أو مونتاج أو أيّ فبركة تقنية تختار لك ما تريد هي تسويقه.

وفي الجهة المقابلة تقدم لك اللقاءات المباشرة حقيقة الجمهور الذي جاء للاستماع والمشاهدة والتفاعل، وليس عبر الشاشات، وذلك من منطلق أن أيّ فرجة جماهرية ليست كقرينتها الفردية. وهذا أمر شائك يتعلق بسيكولوجيا الجماهير، وما يرافقها من حالات الهياج والهستيريا الجماعية.

بالعودة إلى مهرجانات تونس الصيفية التي تشهد عدة مشاكل وظواهر تتعلق بعلاقة الجمهور مع الجهات المنظمة من ناحية، وكذلك مع الفنان الذي يحيي الحفل، مما يطرح السؤال على أكثر من جبهة، لعله يحيلنا إلى مدخل لقراءة هذه الظواهر.

مهرجانات تونس الصيفية

حح

لماذا يوجد في غالبية الحفلات وكذلك العروض المسرحية ـ والكوميدية على وجه التحديد ـ خلل ما في التواصل بين الجمهور والفنان، وصل إلى حد التلفظ بالعبارات النابية؟ ولماذا ألغيت بعض العروض على خلفيات اجتماعية وحتى سياسية؟

 لم يتوقف الجدل في تونس منذ انطلاق موسم المهرجانات الصيفية، في مختلف المحافظات، نظرًا إلى الضجة التي رافقت عددًا منها وارتبطت سواء بمشاكل تنظيمية أو تمويلية أو حتى أخلاقية، ومنها ما تجاوز صداها المستوى المحلّي.

التونسي يقتطع، على سجيته، كل صيف مبلغا من المال يخصصه للمهرجانات وطلب الترفيه، حتى لو كانت حالته المادية متدنية، ومهما كابد من صعوبات معيشية كما في السنوات القليلة الماضية.

علاقة التونسيين بالمهرجانات والفنانين الماثلين على المسارح الغنائية علاقة لا تخلو من الشوائب رغم ما فيها من وئام

إنها التقاليد التي تقدسها العائلات التونسية أكثر من تقديرها لأسبابها وفحواها، لذلك لا تستغرب حين تشاهد رقصا هيستيريا يشترك فيه الجنسان على إيقاع أغنية صوفية أو حتى سياسية كما حصل مع أغاني اللبناني مارسيل خليفة وغيره.

وتتراوح هذه العلاقة بين الجمهور التونسي والفنان الذي يحل عليه ضيفا، بين الحماس المطلق أو الفتور الكامل، وذلك لأسباب لا تحددها الذائقة الفنية وحدها بل تتحكم فيها عوامل كثيرة تبقى حبيسة المزاج العام.

ليس الأمر متعلقا بتلك الكليشيهات التي غالبا ما يرددها المطربون القادمون من المشرق العربي أمام الكاميرات التونسية، وتتمحور حول مدح الجمهور التونسي ووصفه بـ”الذوّاق”، وإنما بشيء غريب وصعب المراس.

ومن ذلك مثلا، أن الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، والتي يحضر التونسيون بأعداد غفيرة لحفلاتها، أنه وفي إحدى حفلاتها في الثمانينات، قد غنت بطريقة البلاي باك، فما كان من الجمهور إلا أن غادر المدارج غاضبا وتركها وحيدة. ولم تصلح العلاقة بين المطربة اللبنانية وجمهور قرطاج إلا بعد أن اعتذرت منه في حفلات لاحقة، وقدمت له أغاني من النوع الرفيع.

وقس على ذلك في حالات نادرة ولافتة مثل أمسية محمود درويش بمشاركة الإخوة جبران، في العزف الذي رافق إلقاءه. وها قد رحل الشاعر الفلسطيني وظل جمهور قرطاج وفيا لذكراه عبر تفاعلهم مع معزوفات الإخوة جبران الذين يعودون إلى دورة هذا العام. الحديث عن جمهور تونس معقد وإشكالي حد التناقض، وذلك لمزاجه الغريب المتأتي من طبيعته المتوسطية التي تمتد بجذورها أفقيا وعموديا.

12