الفنون الأدائية في مواجهة الظلامية والنكوص

أكاديمية الفنون الأدائية تقطع مع توصيفات الفنون الأدائية على أنها خارج نطاق الثقافة وتضعها في قلب الحركة الثقافية.
الأحد 2023/07/16
المشاريع الثقافية تزدهر بالاهتمام

تجمع صورة تخرّج الدفعة الأولى من طلبة أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية 16 خريجا مع مؤسس الأكاديمية ورئيسها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة. يبدو العدد قليلا، لكن الدفعة الثانية ستضم 250 خريجا. ثمة إقبال على الأكاديمية يبشر بأن موقف التعامل مع الفنون الأدائية يسير إلى المزيد من القبول. الثقافة، من وجهة نظر عربية شعبية سائدة، لا تشمل الفنون الأدائية.

هذا الانطباع منتشر على الرغم من أن هذه الفنون تعيش يوميا معنا، بدءًا من الأغاني في راديو السيارة ومرورا بالفيديو كليب في التلفزيون ووصولا إلى الأفلام والمسلسلات، التي هي في الأساس مشهد من مشاهد الأداء المسرحي. المثقفون، الذين يفترض أن يكونوا أساس التنوير الاجتماعي، يحاولون حصر اهتمامهم بأوجه الثقافة الكلاسيكية من شعر ورواية وتشكيل. الفنون الأدائية التي يعاملها العالم بأولوية لأنها تتحكم في المشهد البصري والسمعي بقوة، غير محظوظة في عالمنا.

لنسأل مرة أخرى: ما هي أسلحتنا في مواجهة الظلامية الدينية وفي مواجهة النكوص السياسي السائد من حولنا؟ سياسيا، يمكن القول بكل اطمئنان إنه لا توجد تنظيمات حزبية ذات قيمة في منطقتنا. الفراغ السياسي لا يستطيع أن يخلق واقعا سياسيا مختلفا. ثمة قيادات إقليمية تعمل في إطار الدولة، وثمة تجارب ناجحة، أغلبها من قلب المنظومة الملكية التقليدية التي طوّرت نفسها بشكل كبير لتواكب تغيرات العالم. الاستقرار والتنمية اللذان توفرا في بعض الدول العربية ممن تحكم بمنظومات تقليدية، سدّا الفراغ السياسي المحسوس.

◙ المشاريع الثقافية تزدهر بالاهتمام، وقد لا تثمر إلا بعد سنوات طويلة. ولعلنا ندرك خطورة انقطاع الاهتمام بمثل هذه المشاريع لأنها مثل أيّ مشاريع حضارية وعمرانية تحتاج إلى استكمالها أولا

السلاح الثاني هو الثقافة. هذا ليس رأيا شخصيا، بل يندرج ضمن مواقف وقرارات اتخذتها قيادات سياسية مخضرمة في منطقتنا. للشيخ سلطان بن محمد القاسمي وجهة نظر بارزة في هذا الصدد.

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الشيخ سلطان بدأ حياته ناشطا سياسيا. عند مطالعة كتاب السيرة الذاتية “سرد الذات”، نجد حكاية عن هذا الناشط السياسي الذي تجاوب مع تقلبات صاحبت مرحلة نهاية الاستعمار. في كل محطة تاريخية، كان له موقف. وفي لحظة تاريخية نادرة، كان حاضرا في مرحلة تأسيسية مهمة وهي مرحلة انطلاق مشروع الاتحاد الذي أصبح دولة الإمارات. اجتمع فيه السياسي مع رجل الدولة، ليكون شريكا مع المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وبقية حكام الإمارات. لكنه، وبالتوازي مع الإنجاز السياسي، عمل مبكرا على ما يدعم هذا الإنجاز ويعززه. الثقافة كانت جزءا أساسا من البناء الفكري والاجتماعي في الشارقة ضمن فسيفساء تراثية وثقافية وإنسانية جميلة كانت تشكل الإمارات.

متانة بناء الدولة في الإمارات، والاهتمام المبكر بالثقافة، وخصوصا بأوجهها المحلية والعربية، جعلا من الممكن الحديث عن التنوير الاجتماعي. إنْ التقيت بـأيّ زائر أو مقيم في دولة الإمارات، فقد يحدّثك عن هذا الانسجام بين الحداثة المدنية والتنمية والتطور، والإصرار على أن تكون الثقافة أداة مهمة في التنوير.

 بمرور الوقت، ومع انتشار الظلامية الدينية والنكوص السياسي، تحولت الأداة إلى سلاح أو درع لحماية المجتمع الإماراتي. نظريا، وكمجتمعات قبلية تقليدية، كانت دول الخليج الأقرب إلى أن تكون أول المنجرفين بالتيار الديني. للدقة، انجرف بعضها وسادت أوجه من السرورية الإخوانية التي لا تزال كامنة في جيوب اجتماعية هنا أو هناك.

لكن المجتمعات صمدت أمام مد الظلامية الدينية، كما صمدت من قبل أمام ريح التقلبات السياسية التي جاءت مع العسكر والأحزاب. وفي مرحلة خطرة هي مرحلة ما يسمّى بالربيع العربي، وبينما كانت مراكز عربية تنهار، كانت الدول ذات الأنظمة التقليدية تزيد من تمسكها بالتنوير الاجتماعي، بل وأصبح الربيع العربي اختبارا عمليا لمتانة البناء. تجول في شوارع الإمارات أو سلطنة عمان أو المغرب، لتقدر حجم التصالح بين القديم والحديث، والتسامح بين ابن البلد والوافد أو الزائر. أموال النفط لم تكن الضمان لتماسك هذه المجتمعات. لو كان النفط ضامنا، لما رأينا ما حدث في العراق وليبيا. التنوير الاجتماعي كان الطريق نحو السلم الاجتماعي.

◙ المثقفون، الذين يفترض أن يكونوا أساس التنوير الاجتماعي، يحاولون حصر اهتمامهم بأوجه الثقافة الكلاسيكية من شعر ورواية وتشكيل

تأسيس أكاديمية للفنون الأدائية يأخذ هذه الفنون في منطقتنا من أوجهها التجريبية التي تعتمد على المواهب، إلى مستويات الاحتراف التي تشكل عالم اليوم. الموهبة ضرورية، لكنها تبقى محدودة من دون تطوير، ولا تستطيع أن تواكب المطلوب من إنتاج يغطي ساعات بث طويلة وخدمات تدفقية متزايدة من أغان وأعمال درامية. صقل المواهب لا يجعلها أفضل وحسب، بل يؤهلها لتأسيس صناعات فنية تستطيع مواكبة التطور المتلاحق. كما أنه يسهم في تكوين جماعات فنية لا تحسن الأداء فقط، بل تستطيع أيضا أن تقيّم الأداء ضمن منظومة نقدية حقيقية وليست قائمة على الانطباع الأول أو المباشر.

مثل هذا التأسيس يقطع بشكل كبير مع توصيفات الفنون الأدائية على أنها خارج نطاق الثقافة التقليدية، بل يضعها في قلب الحركة الثقافية. مقابل كل قارئ لمسرحية مكتوبة، ربما هناك 100 مشاهد لها لو تحولت إلى عمل مسرحي على خشبة المسرح، وربما الآلاف أو عشرات الآلاف من المشاهدين عندما تتحول الرواية المسرحية إلى عمل درامي تلفزيوني. الرسالة الفنية أو الفكرية للعمل المسرحي تكتسب زخما أكبر بكثير عند تحولها على أيدي محترفين إلى صناعة فعلية، بل وتخرجنا من النسق السائد في التعامل مع المسرح على أنه مناسبة لتقديم عمل يدوم يوما أو يومين أو أسبوعا، ثم يتلاشى.

من المهم الإشارة إلى اهتمام الشيخ سلطان بن محمد القاسمي بالمشروع  اهتماما شخصيّا. فالمشاريع الثقافية تزدهر بالاهتمام، وقد لا تثمر إلا بعد سنوات طويلة. ولعلنا ندرك خطورة انقطاع الاهتمام بمثل هذه المشاريع لأنها مثل أيّ مشاريع حضارية وعمرانية تحتاج إلى استكمالها أولا، ثم العمل على “صيانتها” لكي تتحول إلى مشاريع مستدامة. الانقطاع الثقافي هو وجه من أوجه الانقطاع الحضاري. وبهذا الانقطاع تعود الظلامية الدينية إلى التسلل.

 

• ينشر بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

9