الفنان سبوداه غوبتا يستحضر تفاصيل الهند في باريس

غوبتا يعيد إنتاج الثقافة الهندوسية من وجهة نظر معاصرة، فالمقدسات تتحول إلى تكوينات ميكانيكية مع ذلك نراها تمتلك ذات الألق.
الأحد 2018/04/15
المنحوتة الأشهر لغوبتا: إله جائع جداً

تستضيف مؤسسة العُملة في باريس معرضا للفنان الهندي سبوداه غوبتا، المشهور بمنحوتاته الضخمة، التي يكوّنها باستخدام المواد اليومية المتداولة في الهند، خصوصا آواني الطبخ المعدنية، التي تستخدم لصناعة الطعام ونقله من مكان إلى آخر، إذ يجعل منها صروحا تشهد على الحالة الاقتصادية لبلاده، خصوصا أن المطبخ هو المساحة الحميمية التي تربط الفرد بالطعام، والفضاء الأساسي كي يستمر الشخص بالحياة، وأول ما يتأثر بالمتغيرات الاقتصادية في الهند ملايين الفقراء، الذين لا همّ لهم سوى تأمين طعامهم وطعام من حولهم.

يحوي المعرض المنحوتة الأشهر لغوبتا، وهي “إله جائع جدا”، التي أنهاها عام 2006، وتتألف من الأوعية المعدنية والنحاسيّة، شديدة النظافة، التي تستخدم عادة لحفظ الطعام المنزلي، ونقله من مكان إلى آخر على شكل وجبات صغيرة. هذه الأوعية التي يفوق عددها الألف وخمسمئة، يشكل باستخدامها غوبتا، جمجمة بشرية كبيرة الحجم.

يتلاعب غوبتا في هذه المنحوتة، بثلاث مستويات ثقافية، الأول، مرتبط بالأغراض اليومية مسبقة الصنع، والتي تنتج بالآلاف ويستخدمها الجميع بوصفهم متساوون استهلاكيا، والثاني مرتبط بخصوصيّة الطعام في الثقافة الهندوسية وقدسيته، وإثر مزجه لهذه المكونات، يخلق لنا جمجمة تستحضر المستوى الثالث، النقدي والسياسي، فهي تمثل خطاب الموت والهيمنة الاقتصادية على المتطلبات الحيويّة، فالجوع الذي يحكم الكثيرين، أشبه بإله رأسماليّ، متطلب، نزق، يلتهم الأفراد دون أي شبع، هو وليد المتغيرات الاقتصادية التي تسحق الحاجات الطبيعية.

بائع الحليب على الدراجة المذهبة
بائع الحليب على الدراجة المذهبة

المميز في الأوعية، أن كل منها أشبه بوثيقة تعكس تاريخ الأسرة الشخصي وحميمية طعامها وكميته وطرق تقسيمه، كما تحوي آثار علاقة المال بالطعام، وتختزن فن وخصوصية الطهو التي تمارسه كل أسرة، ويصف غوبتا هذه المنحوتة بقوله:” أنا اللص المثالي، أسرق من دراما حياة الهندوس ومن مطبخهم، فالأوعية أشبه بآلهة صغيرة مسروقة، مهربة خارج البلاد، فالمطابخ الهندوسية مقدسة كغرف الصلاة”.

المفارقة أن هذه المنحوتة عُرضت سابقا في فرنسا، إلا أن اختيار مؤسسة العملة في باريس يحمل دلالة رمزيّة، فالمؤسسة مسؤولة منذ عام 864م عن صك النقود المعدنية والميداليات، وكأن المعادن التي تهيمن على الاقتصاد، هي ذاتها التي تحفظ قوت الأفراد وسبب نجاتهم من الجوع.

نشاهد في المعرض أيضا، منحوتة “بقرتين”، المنجزة عام 2003، وهي عبارة عن دراجتين هوائيتين مصنوعتان من البرونز، تحملان أوعية تستخدم عادة لنقل الحليب، وكأن غوبتا يعيد إنتاج الثقافة الهندوسية من وجهة نظر معاصرة، فالمقدسات تتحول إلى تكوينات ميكانيكية مع ذلك نراها تمتلك ذات الألق، وهذا ما يرتبط بطبيعة المعادن المستخدمة، التي تلمع دون أي خدش.

في ذات الوقت نتلمس نوعا من التدنيس المرتبط بإعادة إنتاج المقدس عبر اليومي والاستهلاكي، وتحويله من الصيغة الفيتشيّة إلى أخرى وظيفية بحتة، عبر جعل الوظائف الحيوية الداخلية للبقرة ذات شكل ميكانيكي، بشري الصنع، خال من تعقيدات البيولوجيا، لتُصبح أداة فعّالة فقط، أشبه بمنتج صناعي رخيص، بسيط المكونات، يؤدي مهمة الاحتفاظ بالحليب ونقله.

يحضر في المعرض عدد من أعمال غوبتا الجديدة، كمنحوتة “كنز غير معروف”، التي أنجزها العام الماضي، وفيها نرى كبسولة للزمن، مفتوحة أمامنا ومحتوياتها معلقة في الهواء، لكن ما يثير الاهتمام أن ما في داخلها يعود لقبيلة بدائيّة، يحاكي عبرها الفنان مفهوم كبسولة الزمن، التي تُحفظ فيها أغراض تعكس نسق الحياة، الذي كان سائدا أثناء الفترة التي صنعت بها، إذ يستعيد الهالة المحيطة بمفهوم الكبسولة، بوصفها رسالة إلى المجهول، إلى أولئك الذين لن نلتقيهم، تاركا لنا حرية التفكير بما يمكن لنا أن نتركه لمن يأتون من بعدنا.

13