الفنانون مطالبون بالاستلهام من التراث وتوظيفه للوقوف ضد الإرهاب

التفكير في تنضيج الاشتغال على التراث يتطلب رهانا فنيا جماليا وذائقة إبداعية ضمن هيكلة ثقافية متجاوزة وواعية.
الأحد 2023/01/22
من واجب المسرح إعادة الاعتبار للتراث (مسرحية "كليلة ودمنة")

الحديث عن التراث بمعزل عن الحداثة أو العكس هو تضمين للتصدع في أي مشروع يبحث عن معنى حقيقي للفعل. هذه الرؤية التي ترى عبر نموذج القطع في عمقها تبني معيارا للتطرف وصدا لمآلات التلاقي وتنضيج الرؤى.

والمزاوجة بين التراثي والحديث في بناء الهوية الشخصية هي عين صواب السير في مواجهة المتغيرات. وإنشاء موازنة تفاعلية بينهما ضمانة لديمومة حيوية العقل والذات في بناء معنى الوجود. ومهما تقدم الإنسان فإنه يبقى موكولا في الكثير من تفاعلاته إلى موروثه الذاتي والمجتمعي، يقول جيمس هارفي رونسون “إن العقل الحديث حديث جزئيا لأن جوانب كثيرة منه ساكنة فينا منذ أيام ماضينا السحيق”.

والتكامل هو الرهان الحقيقي الذي يضمن الديمومة بروح متجذرة في الأرض وتفاعل منفتح على مختلف الرؤى.

موضوع ممتد في النقاش والتنظير فلسفيا وفكريا وأيديولوجيا. إلا أني في هذا المقال أقصر الاهتمام على جانب التراث في علاقته بالمنجز الفني وما يفتحه ذلك على رهان التنضيج والتطوير.

إن الاشتغال على التراث ينطلق من قناعة ذاتية براهنية التلاقح والدفع إلى الأمام من أجل خلق حالة حيوية لفعل سابق، تقطع مع الارتباط الزمني والمكاني. يقول يحيى البشتاوي “إن التعامل مع التراث كمواقف وحركة مستمرة من شأنه المساهمة في تطوير التاريخ وتغييره نحو المثل والمساهمة في استشراء المستقبل، لا أن تقتصر النظرة على أنه مادة خام تنتمي إلى الماضي الذي انتهت وظيفته”، يصبح الفعل الفني هنا حاملا لبذور الانتشار والتلقي.

العمل في إطار استدعاء التراث يمثل صورة لبناء الشخصية الوطنية وربطها إلى واقعها التاريخي المميز والحاضن لمختلف التنوعات. على المبدعين التجديد فيه وتطوير جمالياته والإبداع في تقديمه للذائقة العامة

والاشتغال على التراث في المنجزات الفنية لم يأت جزافا، وإنما في إطار توجه شامل يتماشى مع دعوات المؤسسات المهتمة بالتراث، التي تعمل على إبرازه بما يضمن للبلدان انتماءها وتاريخيتها وتنوعها. الهدف الآخر هو العمل على تجذير فكرة مواجهة الإرهاب بالثقافة. يلعب ذلك دورا في إبعاد الرؤى الرجعية التي تعمل على تغيير نمط العيش، عبر تغيير جملة من العادات الموروثة في المناسبات من موسيقى وطقوس واحتفالات، وتعويضها بعناصر أخرى يقع اجتثاثها بصورة مشوهة من الدين.

إن العمل الفني الذي ينطلق من التراث ويهدف إلى بناء معالجة متجددة يمكن المشاهد من التفاعل والتماهي. هذه الخطوة تتطلب مبدعين قادرين على التجاوز ورسم فعل حي بعيدا عن التصنيفات. يقول يوسف ميخائيل “الاستلهام من التراث ليس ولادة تلقائية ولكنه توليد موجه يقوم على الذكاء وحسن التصرف والوعي بالأصول الفنية التراثية؛ فالمبدع هنا لا يظل مسلوب الإرادة انتظارا لأولوياته في الإلهام، ولكنه يدرس التراث ليتمخض فكرة عن عمل خلاق في صورة مبتكرة غير مسبوقة”.

 الاستلهام مقاربة توليدية تخلق المعنى صلب الموضوع ولا تستكين إليه، هذا ما يعطي رجاحة للمادة الفنية التي تنطلق من مجرى التراث. ويجب أن يكون النطاق الفني هو الفاعل الأساسي، باعتبار أن المعطى الإبداعي له رهاناته الجمالية، متى غاب هذا المعطى يصبح المنجز عبارة عن طرح مباشراتي لا أكثر.

ومن خلال هذا تصبح كيفية الاستلهام من التراث أهم من التوظيف في حد ذاته، في هذا السياق يقول محمد رجب النجار “يمكننا تقصي واقع المادة التراثية المستلهمة جذورها – أصولها – منشؤها البكر – مكوناتها الإبداعية، وكيف يتم تشكيل عمل إبداعي جديد على تخومها القديمة تتجلى فيه خصوصية العمل الفني وتفرده وتمايزه”. إن القدرة على توظيف التراث تنطلق من ذات مبدعة بالأساس وصلب معادلة فنية في الإنجاز، هذا ما يمكن الفنان -مهما كان اختصاصه- من تجاوز الإسقاط؛ حيث يصبح تعامله مع المادة التراثية كآلية معرفية ومنجز إنساني لا بوصفه ركاما يحمل ركود الماضي.

هذه الرؤى متى تلاقت من شأنها فتح أبواب التلقي وبلورة نطاق تفاعلي جماهيري. مختلف الأنماط الفنية التي تلامس الوجدان وتحترم الصفة الإنسانية لها أن تخلق مدارات للتأثير الإيجابي. وباعتبار اهتمامي بالمسرح سأقصر الحديث حول علاقته بالتراث. غالبا ما يكون استلهام الآثار الشعبية في المسرح العربي عبر إسقاطات تلقينية استهلاكية -هذا لا يخفي وجود تجارب جيدة- تتشابه في الطرح والصبغة المباشراتية في استدعاء المادة التراثية إلى الركح. هذا ما يقطع مع رؤى الاستلهام الوظيفية والخلق الفني التي ذكرناها.

 لو نظرنا إلى الاشتغال المسرحي العالمي ضمن المعالجة التراثية سنجد العديد من التجارب القيمة والحية في مستوى طرحها، من ذلك تجربة المسرحي العالمي بيتر بروك التي عبر عنها الدكتور عزالدين إسماعيل بقوله “ركز المخرج الإنجليزي بيتر بروك على ثقافات الشعوب البدائية وممارساتها الاحتفالية في تأسيس منطلقات مسرحية، حاول من خلالها تأكيد المسرح كلغة يمكن أن يتشارك في فهمها أناس من أجناس مختلفة. إن قراءة واستلهام الموروث الشعبي مهم لما فيه من أشكال ومظاهر تحقق لها خصوصية، تتفرد بها في إطار البحث عن الوسائل التي تخصص شكلا يستثمر الظواهر الجوهرية في الحياة الإنسانية، مستبعدا ما هو شكلي أو سطحي ومركزا على مقومات تفرزها حياة الشعب، فتشكل ممارسات وأفكارا وأوضاعا توحي بنقلة اجتماعية مميزة عن الفترة التي سبقتها”.

من واجب المسرحي الذهاب بعرضه إلى الجمهور

ومن الرهانات الأخرى التي أرى أنها قادرة على فتح مآلات التلقي في واقعنا العربي -باعتبار أن المسرح مادة حية والتراث محمل جامع- هي العروض الفرجوية المفتوحة التي تساهم في بلورة وعي الشارع؛ إذ أنها تلتقي المواطن في عناوين حراكه اليومي. لو قام المسرحيون بفتح هذه الزاوية أكثر لوقع تنضيج الفكر الجماهيري واستيعاب أكثر ما يمكن. ترسيخ الاشتغال على مضامين التراث بهذا التوجه يعزز أهداف حضوره في الذائقة. والعمل في المسرح وفنون العرض بنفس تجريبي للخروج من العلب الإيطالية والقاعات المغلقة يعطي بعدا آخر للتلقي.

أرى أنه من واجب المسرحي الذهاب بعرضه إلى الجمهور، حيث يصبح المتفرج جزءا من العرض وأحد أضلاع اللعب. في هذا عمل ضمني على تغيير الوعي الفرجوي تدريجيا ووضعه على سكة التفاعل العفوي. وعبر تواتر التجارب والإقبال على المنجزات الإبداعية التي تحاكيه وتأتيه إلى مكان وجوده يصبح مواطنا إيجابيا، يصبح بدوره فاعلا ومواكبا للشأن الثقافي باعتبار إحساسه بقيمته ووجوده في إطار هذه المنظومة. هذا ينسحب على مختلف الأنماط الفنية الأخرى.

إن الاشتغال على حكايا الشعبي وتفاعلاته إعادة اعتبار لدور المثقف وإرجاعه إلى مدار فعله الصحيح المنطلق من الشارع كما يذكر الدكتور عبدالوهاب المسيري. هذا دعامة عملية للامركزية في الممارسة الثقافية. منهج تعمل عليه الدول عبر إيصال الثقافة إلى مختلف الجهات الداخلية، في إطار التمييز الإيجابي والانفتاح ثقافيا خاصة على المناطق الحدودية والمناطق المهمشة، وتحويل عدمها المؤسس للآفات إلى مناخ ربيعي للممارسة الثقافية والفعل الإبداعي البناء. كل هذا يمكّن من بناء جدار صد قوي ضد الاستقطاب الإرهابي والرؤى الاستئصالية بمختلف أنواعها، التي تعمل في الأماكن العدمية والبعيدة عن أي حضور ثقافي.

التفكير في تنضيج الاشتغال على التراث يتطلب رهانا فنيا جماليا وذائقة إبداعية ضمن هيكلة ثقافية متجاوزة وواعية. ودور المثقفين الشباب مهم في أخذ المبادرة وتنضيج الأفكار والسعي في الأطر الفنية من أجل توفير منطلقات إنجاز المشاريع وتطبيقها.

يمثل العمل في إطار استدعاء التراث -بما فصلناه سابقا- صورة لبناء الشخصية الوطنية وربطها إلى واقعها التاريخي المميز والحاضن لمختلف التنوعات. على المبدعين التجديد فيه وتطوير جمالياته والإبداع في تقديمه للذائقة العامة. هذا دون غلق باب الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى التي حافظت على تراثها وضمنت له دعائم البقاء. الفكر الأوروبي كان ولا يزال يتجدد من داخل تراثه، وفي الوقت نفسه يعمل على تجديد هذا التراث؛ تجديده بإعادة بناء مواده القديمة وإغنائه بمواد جديدة. وأخيرا يمكننا القول إن الاهتمام بالموروث الشعبي يشكل ضرورة تاريخية حيوية؛ لأنه يشكل العمق التاريخي الحي لوجوده، وإرثا ثقافيا لا يفنى. يجب العمل على تنمية القيم الإيجابية في هذا التراث والاستفادة منها، ولا بد في ذلك كله من الانفتاح على الآخر والاستفادة من حضارته وقيمه وعلومه الإنسانية. يجب الانطلاق من هذا التراث لا الانغلاق صلبه.

*ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" اللندنية الثقافية

9