الفرح بعيد الميلاد يكشف ملامح الوحش الجماهيري

وعي زائف لدى العامة، تشكّل عبر عقود طويلة، مفاده أن خلاص الأمة يكمن في تمثّلها لقيم دينية يُعتقد أنها صالحة لكل زمان ومكان. والحقيقة أن هذا الاعتقاد رسخته مجموعة من الجهلة المتحدثين باسم الإسلام، ولم تعد الآن الدعوات القائلة بالتسامح والانفتاح ذات جدوى فاعلة، وذلك بسبب الجمود الذي تكرس عبر سنوات طويلة كما هو الأمر في مصر.
للكائن الذي اجتهد فرانكنشتاين في تجميع أجزائه قدرة تدميرية لم يكبحها حسن نية الطبيب. وكذلك الجماهير ضحية التربية الدينية الكارهة للمختلف في الدين والمذهب. ومنذ منتصف سبعينات القرن العشرين يجري تجهيلها في مصر بتعليم هجين، وتغادر مدارس تراجعت أدوارها إلى مساجد تلعن غير المسلمين، من “المغضوب عليهم والضالين”، وتُفرض عليها أحاديث تلفزيونية راسبوتينية لشيخ غادر الوزارة نجما منزّها عن الضلال، ولو مارس الإضلال.
الوحش الجماهيري عاري الأعصاب، يستفزه أي شيء مخالف لما نشأ عليه، ويعلن الحرب انتصارا ليقينه، ويمارس الآن وصايته الفقهية على الأزهر وشيخه، ويرهب اللاعب المحترف في فريق ليفربول محمد صلاح وهو يحتفل بقدوم عام 2020.
عشية الاحتفال بعيد الميلاد، نشر صلاح صورة في بيته مع أسرته، وخلفهم شجرة الكريسماس، وحظيت بمئات الآلاف من التعليقات؟ ولكن اللاعب حذف الصورة، استجابة لضغوط وابتزاز جماهير ترميه بتهمة التشبّه بالنصارى، وهو ليس مسلحا لخوض جدل فقهي أو فكري يقنعهم بحياته الجديدة في مجتمع أكثر تسامحا، فأراح نفسه بإغلاق الباب. اللاعب ذو الوعي السلفي الفطري تبرّع بإنشاء معهد أزهري في قريته التي تحتاج إلى مدرسة، وبعد اكتمال البناء انتبه الأهالي إلى أولوية تخفيف الكثافة عن مدرسة وحيدة يتكدس في الفصل الواحد بها 65 تلميذا، وأن في القرية معاهد أغلق أحدها لعدم وجود تلاميذ، وطالبوا الأزهر بتحويل المعهد إلى مدرسة تابعة لوزارة التعليم، وفاجأتهم دروب البيروقراطية ذات البعد الديني هذه المرة.
محمد صلاح أحد ضحايا تربية دينية تراقبه عن بُعد، وتريد ضبط إيقاعه على هواها، وتقيّم ما يتيحه من تفاصيل سلوكه اليومي. وتزامن هذا السلوك التلقائي مع تهنئة الأزهر، يوم 24 ديسمبر 2019، للمسيحيين ولبابا الفاتيكان بعيد الميلاد. تهنئة الأزهر تؤكد انفتاح ورحابة صدر أكبر مؤسسة إسلامية لأتباع الديانات الأخرى، “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم”. وليس في التهنئة إشارة إلى هذه العقيدة أو تلك، بل أمنية بأن “تعاد هذه المناسبة على جميع الإخوة المسيحيين بالسعادة، وعلى العالم أجمع بالأمن والسلام. وبهذه المناسبة الطيبة فإن الأزهر يؤكد على متانة العلاقات الإسلامية المسيحية، خاصة في ظل الجهود التي يبذلها الإمام (أحمد) الطيب والبابا فرنسيس من أجل تعزيز جسور الحوار والتواصل بين كل الأديان والثقافات، وترسيخ قيم السلام والعيش المشترك بين الشعوب والمجتمعات”.
التعليقات في فيسبوك، على بيان الأزهر، تؤكد عمق القاع الذي بلغه المجتمع، وأنه لا أمل قريبا في النجاة، إلا بمجاهدة تستهلك جيلا على الأقل. ردود الفعل تقول إن المسلمين مأزومون ماداموا في بلادهم المأزومة، فإذا نجوا منها بالإقامة ولو بالقرب من الفاتيكان تعلموا احترام أصحاب الديانات الأخرى، وألا يعلنوا كراهيتهم للآخر واحتقارهم لعقيدته. ولعل علماء النفس يفسرون ارتباط غياب التسامح الإنساني بالقهر وفقدان التحقق وخيبة الأمل والروح العدوانية الكارهة، وهذا ما تدل عليه ردود الفعل على بيان الأزهر. علق أحدهم “أشهد الله أن الله ورسوله بريء مما تدعون إليه. كيف لي أن أبارك عيد قوم يعتقدون بميلاد الله ويشبهونه بطفل. تعالى الله يا أزهر الإسلام.. هذا العيد يتعارض شكلا ومضمونا مع جوهر الإسلام والتوحيد… قال عمر رضي الله عنه: إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم”. وبسرعة حظي التعليق بأكثر من 570 إعجابا.
واكتفت مسلمة اسمها عائشة بكتابة نص سورة “الكافرون”: “قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين” ونالت السورة أقل من 300 إعجاب. وكتب أحدهم “من المعلوم والبديهي أني لا أهنئ من رسب في اختبار من اختبارات الدنيا على رسوبه، فكيف أهنئ من رسب في امتحان الآخرة وأدعي الصداقة والأخوة والإنسانية، بل ذلك من الخيانة فلو كان أخي حقا لنصحني وما تركني في ضلالي. صلى الله على سيدنا إبراهيم حين كسر أصنام قومه في يوم عيدهم ليقيم الحجة عليهم”.
ردود الفعل تقول إن المسلمين مأزومون ماداموا في بلادهم المأزومة، فإذا نجوا منها بالإقامة ولو بالقرب من الفاتيكان تعلموا احترام أصحاب الديانات الأخرى، وألا يعلنوا كراهيتهم للآخر
في حوار الأديان لا تتطرق المناقشات إلى مساس بالعقائد، فهي ليست محل جدل بالتشكيك أو الإقناع. ولا يجدي إثبات صحة عقيدة وبطلان أخرى، هذا عبث؛ فكل صاحب عقيدة يثق بأنه على الحق. ومن المفيد أن نبحث عن مشترك إنساني، وإيمان باتساع الأرض لمن يؤمنون بأي دين ولمن لا يؤمنون. ولم يعاقب الله منكري وجوده، فلماذا يتشنج مسلم ويمنح نفسه مكانة الله؛ فيحكم على سلوك إنساني لمؤسسة الأزهر؟ أحدهم تجاسر قائلا “العقيدة خط أحمر. أبارك لجاري المسيحي بحفل زواجه، وأعزيه بفقدان عزيز، لكني لا أهنئه بيوم يعتقد فيه أن الله أنجب ولدا”. وتباهى آخر بتسجيل هدف في مرمى الأزهر “أتعجّبُ منْ أناس يقرؤون على مدار العام “قل هو الهى أحد” ثم يحتفلون بعيد مَنْ قالوا إن لله ولدا”.
توجد تعليقات نادرة تسمو على هذا اللغو، منها “كل عام وكل البشرية بخير بميلاد نبي الله وكلمته ورسوله وروح الله مولانا وحبيبنا عيسى بن مريم الناصري عليه وعلى أمه أفضل الصلاة وأتم التسليمات”. كلمات تبتعد عن حلّ الاحتفال أو حرمته، ولكن الرد عليها استحق وسم “الكريسماس حرام” وتعليق “طالما تهنئهم، يبقى أنت متفق مع فكرة أنه ابن الله، بدل التهنئة اُدعُهم إلى توحيد الله، وعرفهم مدى ضلالهم.. يوم القيامة يمسكوا فيك ويقولوا لك كنت تعرف أين مصيرنا وكنت سببا في تثبيتنا على ضلالنا”.
هذه التعليقات ليست نشازا، ومصدرها قيعان حفرها أناس يسمّوْن “الدعاة”، يكتسبون عيشهم من دعوة المسلمين إلى الإسلام، وينشطون في كافة الوسائل الإلكترونية التي اخترعها المسيحيون، وأغلبهم ينتمي إلى مصر والأردن والخليج، ويرددون مقولة انطلقت في القرن الرابع عشر الميلادي، ويُفترض بطلان سياقها التاريخي، ولكنهم يصرون على أن تهنئة النصارى بعيدهم من الكبائر، ويجادلون بكلام ابن القيم في “أحكام أهل الذمة” الذين لا وجود لهم في دولة المواطنة، ولم تفلح الدساتير المدنية في إبطال قوله “أن يرتكب المسلم جميع الكبائر مجتمعة أهون عند الله من أن يهنئ النصراني بعيده”.
ومن الغرائب أن رجلا اسمه محمد العويهان استنسخ نص فتوى ابن القيم في تغريدة، ثم حذفها من باب التقية بعد تعرضه لانتقادات، وليته حذفها اقتناعا واعتذر.
وسوف تُطل فتوى ابن القيم في وقت آخر، ويتجاوب معها وحش جماهيري نشأ على الكراهية، إلى أن ينجح الأزهر بخطاب إنساني في إعادة تأهيل الوحش. وربما تكون البداية برسالة شيخ الأزهر، المنشورة في جريدة صوت الأزهر في 25 ديسمبر 2019، إلى طلاب المعاهد الأزهرية حول عيد الميلاد والمواطنة في الإسلام، وأنها لا تفرق في الحقوق والواجبات بين أتباع الأديان، “وأن الأفكار الشاذة التي طرأت على المجتمع الإسلامي تطورت بصدور فتاوى خاطئة ومغلوطة تمنع المسلم من أن يهنئ جاره أو صديقه المواطن المسيحي أو يشاركه فرحه أو يعزيه في مصابه… أنماط شاذة من التفكير غاب عن أصحابها حكمة الشريعة ومقاصدها العليا في التعامل مع أهل الأديان الأخرى، فانحرفت بالإسلام عن سماحته، وبالفكر الإسلامي عن وضوحه ونقائه، حتى رأينا ظواهر غير مألوفة ولا مقبولة في معاملة غير المسلمين، تسببت في حدوث فتن وانقسامات بين أبناء الوطن الواحد”.
ربما يكون هذا أقوى بيان يمكن البناء عليه، والرهان على من يتلقاه من طلاب الأزهر.