الفتاوى الدينية والريبة من المصارف تعيق الشمول المالي

غسل الأموال وتمويل الإرهاب والاحتيال ممارسات تتربص بالأموال بعيدا عن البنوك.
الأربعاء 2019/12/11
غياب الثقافة المالية يزيد التحديات

تتصاعد التحذيرات من غياب الشمول المالي عن الساحة العربية، وسط تحديات تعوق نمو مبادراته المتعددة، ما قد يفضي في النهاية إلى استغلالها في عمليات تبييض الأموال، وضياع فرص كبيرة تزيد من خسائر الدول نتيجة حركة سيولتها النقدية في شرايين خارج رقابة الأجهزة المصرفية.

 تفتقد شريحة كبيرة من سكان المنطقة العربية ثقافة التعامل مع الأموال، نتيجة موروثات كثيرة جعلت المؤسسات الدولية تبدي تحفظها الشديد على الشفافية المالية في المنطقة العربية.

وبين التحريم أو الريبة في التعامل مع البنوك عند شريحة من سكان المنطقة ومحاولات العمل في الخفاء، خفتت مفاهيم الشمول المالي، وتوهجت عمليات توظيف الأموال بشكل غير شرعي، وامتد الأمر إلى غسلها.

يعني مصطلح الشمول المالي، في معناه المبسط، ضخ جميع الأموال في الجهاز المصرفي لضمان كفاءة حركتها وتتبع المعاملات إلكترونيا بما يضمن تأمينها بدلا من حمل كميات كبيرة من الأموال تعرض المواطن لخطر السرقة.

يساهم الشمول المالي أيضا بشكل رئيسي في تجفيف منابع الإرهاب عبر تتبع المعاملات والتحويلات المالية وفك تشابك العلاقات المشبوهة المرتبطة بها، ما يعزز الاستقرار الأمني والسياسي والسلم الاجتماعي.

ويندرج في إطار الشمول المالي تنفيذ جميع المعاملات المالية مهما كانت قيمتها من خلال وسائل الدفع المختلفة التي تمر عبر البنوك، سواء كانت من خلال بطاقات الائتمان أو بطاقات الخصم للحسابات المالية للأفراد بالبنوك أو المدفوعة مقدما أو التليفون المحمول وغيرها.

ومن الأمور التي تعمق تحديات الشمول المالي في المنطقة العربية استمرار تدفق فتاوى تحريم التعامل مع البنوك، الأمر الذي يزيد الفجوة عمقا وتشابه الأمور على الأفراد.

الشطارون والعيارون

الشمول المالي في معناه المبسط يعني ضخ كل الأموال في الجهاز المصرفي لضمان كفاءة حركتها وتتبع المعاملات إلكترونيا بما يضمن تأمينها ضد خطر السرقة والتلاعب
الشمول المالي المحدود يؤثر على الازدهار الاقتصادي للدول​​​​​

أفضى التشابه إلى حالة من عدم الثقة بين الأفراد والبنوك والحكومات ما أدى إلى تأجيج حالة الاستغلال وظهور أجيال جديدة من عصابات “الشطار والعيارين” في ثوب جديد، ووقع كثيرون في شراكها أمام إغراءات لا يمكن مقاومتها، هربا من الاتهام بربا البنوك، الذي أصبح وصفة جاهزة تطارد بها بعض الفتاوى الدينية البنوك والمتعاملين معها.

نجحت هذه الفئة في جمع أكثر من ملياري دولار من المصريين خلال السنوات الأربع الماضية بعد إيهام شريحة من المواطنين بتوظيف أموالهم مقابل عائد استثماري مرتفع يفوق معدلات الفائدة بالبنوك، ويبعدهم عن شبهة الربا وتحريمه.

ورغم فضح الكثير من حالات الاحتيال باسم توظيف الأموال، إلا أن هذا المسلسل لا يزال مستمرا، بحافز الطمع أو مبدأ درء شبهات الربا نتيجة استثمار الأموال أو حتى إيداعها بالمصارف.

انتقد البنك الدولي صراحة أداء العالم العربي في ما يتعلق بالشفافية المالية، وقال إن هناك صعوبة في إمكانية الحصول على المعلومات مقارنة بمناطق أخرى.

وكشف استطلاع أجرته المبادرة العالمية للشفافية المالية أن أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجل عشرين درجة على مؤشر الميزانيات المفتوحة المكون من مئة درجة، وهي الأدنى من حيث شفافية الميزانية والمساءلة.

وتنبع التحديات من القيود القانونية والسياسية التي تكبل وسائل الإعلام وتمنع الكشف التلقائي من قبل الحكومات عن المعلومات، وكلها تعوق النقاش الواعي لدور الحكومة والشروع في المساءلة القانونية وتقديم الخدمات.

وأوضح الاستطلاع أنه، بالإضافة إلى انعدام مستندات المالية العامة المتاحة للجمهور، أغلب البلدان تتيح قدرا ضئيلا من الرقابة الفعالة من قبل المؤسسات المعنية بالمساءلة كالبرلمان وأجهزة الرقابة العليا وتقليص فرص مشاركة الجمهور في عملية وضع الميزانية.

وكلما عززت الحكومات من مفاهيم الشمول المالي الذي يضمن مبدأ الشفافية، تراجعت مستويات الفساد وزاد حيز الإبداع وأسهم في تقديم خدمات عامة للشعوب بكفاءة، فضلا عن استقرار اقتصادها الكلي ومد مجالات التوظيف للفئات الأكثر كفاءة بعيدا عن المحسوبية.

ورصد اتحاد البنوك العربية إحصاءات تكشف عمق الفجوة، وقال إن تعاملات 38 بالمئة من البالغين في العالم تتم خارج الأنظمة المصرفية، وهم يمثلون الأغلبية في دول جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

توعية غائبة

إصلاحات عربية واعدة
إصلاحات عربية واعدة

تعتبر دول جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأقل في التوعية بمفهوم الشمول المالي على مستوى العالم، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر، وعدم قدرتها على التعامل مع البنوك بسبب ارتفاع التكاليف المصرفية وبُعد المسافات بين السكن وفروع البنوك، علاوة على المتطلبات المرهقة في معظم الأحوال لفتح حساب مالي.

قال محمد بركات، رئيس اتحاد المصارف العربية السابق، إن 18 بالمئة فقط من السكان في المنطقة العربية لديهم حسابات مصرفية، مقارنة بنحو 43 بالمئة في الدول النامية.

وأكد لـ”العرب” أن دراسات اتحاد المصارف كشفت أن نسبة حاملي البطاقات المصرفية بالولايات المتحدة تتجاوز 60 بالمئة، كما أن نصف الأميركيين يمتلكون حسابات ادخار بمختلف المؤسسات المالية.

وقطعت منطقة الخليج شوطا كبيرا في مضمار تعزيز مبادئ الشمول المالية، خاصة التجربة الإماراتية التي استندت لبناتها على الثورة التكنولوجية، وكان لها السبق في تطبيق التكنولوجيا المالية، الأمر الذي جعلها مقصدا رئيسيا لجميع المؤسسات المالية التي تسعى لدخول منطقة الشرق الأوسط.

محمد بركات: 18 بالمئة فقط من سكان الدول العربية لديهم حسابات مصرفية
محمد بركات: 18 بالمئة فقط من سكان الدول العربية لديهم حسابات مصرفية

ورغم هيمنة ثقافة التعتيم التي تسيطر على عدد من الحكومات في المنطقة العربية ونقص الشفافية من جانب المسؤولين، إلا أن هناك إصلاحات مهمة، حيث ركزت العديد من الحكومات على تشجيع مبادرات الشمول المالي والشفافية.

وأشار البنك الدولي إلى أن البوابة الإلكترونية للشفافية المالية العامة الجديدة في تونس تعد نقطة تحول مهمة، لأنها بمثابة مركز موحد لجميع المعلومات المالية، التي تضم البيانات الشاملة والمفصلة، وتتسم بسهولة الاستخدام ويسر الدخول عليها عبر الإنترنت.

وبذل المغرب جهودا من أجل تيسير اطلاع المواطنين على بيانات الميزانية من خلال صفحة “ميزانية المواطن” التي تنشط منذ عام 2011، أما الأردن فشرع في إصلاح إدارة المالية العامة من خلال وضع استراتيجيات لمكافحة الفساد تشمل تعهدات بالشفافية.

وقامت مصر بترسيخ أطر الشفافية والمصارحة ودشنت مجلسا أعلى للمدفوعات الإلكترونية من خلاله تستطيع مراقبة كافة المعاملات ومواجهة عمليات غسل الأموال، بالإضافة إلى ضم الاقتصاد غير الرسمي إلى داخل المنظومة الرسمية.

وبعد تدشين المجلس الجديد، قررت القاهرة صرف مرتبات الموظفين العاملين بالجهاز الإداري للدولة والبالغ عددهم 5.9 مليون موظف من خلال بطاقات ذكية، ومنعت صرف المرتبات نقدا، ومن خلال هذه البطاقات يسحب الموظف راتبه أو معاشه عبر أجهزة الصرف الآلي من أي مكان في مصر.

وعزز هذا الإجراء من تحسين البنك الدولي لترتيب مصر في مستوى شفافية الميزانية من 16 إلى 41 نقطة من مجموع 100 نقطة على مؤشر الميزانية المفتوحة للمرة الأولى خلال ست سنوات، لتقترب من المتوسطات العالمية.

وتتسارع خطى التجربة المصرية، غير أن فقدان الثقة من جانب شرائح كبيرة من الموظفين جعلهم يصطفون في الشوارع أمام أجهزة الصرف الآلي لسحب مرتباتهم دفعة واحدة، بدلا من استخدام بطاقات المرتبات في عمليات الشراء تدريجيا.

وزادت تلك الخطوة من الكثافة العددية أمام أجهزة الصرف الآلي، والتي لا يمكن أن تلبي أعداد الموظفين. كما نشطت عمليات السرقة بسبب الازدحام غير المبرر نتيجة غياب التوعية، فضلا عن أن البنوك تقتصد في نشر أجهزة الصرف الآلي بشكل يتناسب مع عدد زبائنها.

وتظل محدودية الإمكانيات عائقا أمام نشر تلك الثقافة في بلد تجاوز عدد سكانه 100 مليون نسمة وعدد أجهزة الصرف الآلي في البلاد لا يزيد عن 12656 ماكينة، بما يعني ارتفاع الكثافة أمام ماكينات الصرافة الآلية إلى 7900 فرد لكل ماكينة واحدة، وهو أمر غير منطقي.

أما عدد نقاط البيع التي تستخدم البطاقات الإلكترونية فيصل لنحو 80 ألف نقطة بيع وهو محدود للغاية، فضلا عن عزوف شريحة كبيرة من أصحاب المحلات التجارية عن قبول المدفوعات الإلكترونية، بهدف التهرب الضريبي.

الفقر والبطالة

الشمول المالي في معناه المبسط يعني ضخ كل الأموال في الجهاز المصرفي لضمان كفاءة حركتها وتتبع المعاملات إلكترونيا بما يضمن تأمينها ضد خطر السرقة والتلاعب
الشمول المالي في معناه المبسط يعني ضخ كل الأموال في الجهاز المصرفي لضمان كفاءة حركتها وتتبع المعاملات إلكترونيا بما يضمن تأمينها ضد خطر السرقة والتلاعب

توقع صندوق النقد الدولي أن يساهم تحسين الشمول المالي في الحد من الفقر وخفض معدلات البطالة بين الشباب من خلال المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تسهم بشكل فاعل في زيادة النمو الاقتصادي للبلاد.

وتم رصد منافع من اعتماد الشمول المالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، منها توفير 16 مليون وظيفة بحلول العام 2025 وارتفاع معدل نمو اقتصاد هذه البلدان سنويا بنحو واحد بالمئة فوق المعدلات الحالية.

ويعد تطبيق مفهوم الشمول المالي من قبل المشروعات الصغيرة والمتوسطة عنصرا أساسيا ضمن التحديات التي تواجه العديد من البلدان الراغبة في إصلاح وتنويع اقتصادها، فتعاملات هذه المشروعات عبر المصارف يزيد وضعها الائتماني أهمية ويسمح بزيادة الحزم التمويلية لها.

وتستضيف الإمارات ولبنان والأردن ومصر ثلاثة أرباع الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط.

وكشفت نتائج مسح للبنك الدولي، تم على 13 دولة منها 6 دول بمنطقة الشرق الأوسط، أن الشمول المالي المحدود يؤثر على الازدهار الاقتصادي للدول، بإجبار الشركات المنتجة على العمل دون المستوى الأمثل بسبب عدم كفاية التمويل.

وشمل المسح مصر والأردن ولبنان والمغرب وباكستان وتونس وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.

وتمثل المشروعات الصغيرة والمتوسطة 96 بالمئة بمنطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وتوظف أكثر من نصف مجموع القوى العاملة.

فخري الفقي: الشمول المالي تحد متواصل في ظل تحريم التعامل مع البنوك
فخري الفقي: الشمول المالي تحد متواصل في ظل تحريم التعامل مع البنوك

وأوضح طرح شهادات استثمار قناة السويس الجديدة التي أصدرتها البنوك المصرية للمساهمة في تمويل حفر قناة السويس الجديدة منذ خمسة أعوام عن جزء من حجم الأموال التي يحتفظ بها الأفراد في البيوت، هروبا من البنوك.

وجمعت البنوك المصرية في أسبوع واحد نحو 3.5 مليار دولار أتت من خارج الجهاز المصرفي من الأفراد، من إجمالي 8 مليارات دولار القيمة الإجمالية للتمويل عام 2014.

ولجأ الأفراد حينها لشراء الشهادات بسبب ارتفاع العائد عليها والذي وصل إلى 12 بالمئة، في حين أن أسعار العائد على غالبية المنتجات المصرفية كانت تدور خلال تلك الفترة حول 8 بالمئة.

وقال فخري الفقي، مستشار رئيس صندوق النقد السابق، إن تحدي الشمول المالي سيظل مستمرا في المنطقة العربية طالما اختلطت حركة الأموال في البنوك بالفتاوى الدينية.

وشدد في تصريحات لـ”العرب” على أهمية حسم تلك القضية الجدلية، فأموال الأفراد أصبحت في مرمى التوظيف غير الشرعي نتيجة ضبابية الأمور.

وقدر البنك المركزي المصري عدد المواطنين الذين لديهم حسابات في البنوك بنحو 17 مليون مواطن، في حين أن قاعدة بيانات الناخبين في البلاد تضم نحو 55 مليون مواطن، وهم الراشدون المؤهلون لفتح حسابات مصرفية.

وتتفاقم المشكلة أكثر إذ أن الكثافة المصرفية في المنطقة العربية تصل لنحو 25 ألف مواطن لكل فرع بنك، وهو تحدّ آخر يحتاج إلى فورة في افتتاح فروع جديدة للبنوك بكل دول المنطقة يراعى فيها شمول جميع المناطق دون التركيز على العواصم والمدن الرئيسية فقط.

ولفت تقرير للبنك المركزي المصري إلى أن حجم النقد المتداول خارج البنوك وصل لنحو 30 مليار دولار.

وتزيد معدلات الأمية المرتفعة في المنطقة من تحديات نشر ثقافة الشمول المالي، بالإضافة إلى الشرائح التي تبحث عن العمل في الخفاء هربا من دفع الضرائب، أو التجارة غير الشرعية في أنشطة مجرمة مثل المخدرات والسلاح.

وأطلق البنك الأهلي المصري مؤخرا مبادرة لتوعية الطلاب في مراحل الدراسة بمفاهيم الشمول المالي، ووقع اتفاقا مع 14 جامعة حكومية لدفع مصروفات الطلاب من خلال الكروت الذكية، إلى جانب منح الكروت مجانا للطلاب.

وتتضاعف تحديات المنطقة أمام تطبيق مفاهيم الشمول المالي بسبب الحروب والصراعات الدائرة منذ اندلاع ثورات العام 2011 والتي طالت عددا كبيرا من الدول العربية، ما يجعل المنطقة عند تقييمها العام تتذيل قوائم الشمول المالي عالميا.

نحو وضع استراتيجيات لمكافحة الفساد تشمل تعهدات بالشفافية
نحو وضع استراتيجيات لمكافحة الفساد تشمل تعهدات بالشفافية

 

12