الفانوس المصري يتنوّع ويتزين للفوز بمعركة البقاء

حظر التجوال وتراجع حركة البيع يبددان أحلام تنشيط سوق صانع البهجة في شهر رمضان.
الخميس 2020/04/23
زخارف وألوان

رغم اهتمام المصريين بشراء المستلزمات الأساسية لشهر رمضان يسابق صانعو الفوانيس في القاهرة القديمة الزمن لصناعة إحدى أهم أدوات بهجة رمضان. هم يعملون على أمل عودة هذا المنتج التقليدي المصري إلى المصريين بعد أن استولى عليه الصينيون. فنراهم الآن يتفنّون في تجديده ليلبّي كل الأذواق والجيوب، لكنّ الحجر الصحي يبدد أحلامهم ويزيد من مخاوفهم.

القاهرة - يكفي التجول لساعات معدودة بين الأزقة الضيقة في مناطق الجمالية والدرب الأحمر والسيدة زينب التي تقع في وسط القاهرة، أو القاهرة الفاطمية، لاستعادة ذكريات وطقوس شهر رمضان التي اندثر معظمها بمرور الزمن.

هناك تصطف الفوانيس من أشكال وألوان مختلفة لاستقبال الجمهور، وتنتشر الورش الصغيرة لصناعتها، استعدادا لاستقبال رمضان.

يصعب أن تجد صاحب متجر لبيع الفوانيس أو مالك ورشة لتصنيعها يجلس دون عمل، رغم تراجع حركة البيع بشكل ملحوظ عن السنوات الماضية. الجميع يستثمر فرصة وباء كورونا للترويج للمنتج المحلي بعد وقف استيراد الفوانيس الصينية، ولأن العاملين في المهنة طالما حلموا بهذه اللحظة، فإنهم يستثمرون الوقت لاستعادة النشاط المفقود.

“العرب” تجوّلت في منطقة تحت الربع، الواقعة بحي الجمالية، ولا أحد يعير اهتماما بالإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة لخفض التجمعات أو تقليل الحركة.

هذا ينادي بأعلى صوته لاستقطاب الجمهور، وذاك يهرول لنقل المنتج من الورشة إلى المتجر بعد الانتهاء من تصميم الفوانيس، وثالث يقوم بعملية العرض بطريقة مبتكرة تجذب انتباه المارة.

فوانيس بشرائح صوتية تحمل أغاني رمضان الشهيرة والتاريخية لتغيير الصورة الذهنية عن الفانوس المصري بأنه هيكل صامت بعكس الصيني

لا يختلف الأمر كثيرا في الورش الصغيرة التي تنتشر في المكان، وإن كان يبدو عليها ترهّل الجدران التي تعود نشأتها إلى العشرات من السنين، لكنها تحتضن محترفين ورثوا المهنة عن الآباء والأجداد، وما زالوا يتمسّكون بالحفاظ على التراث التاريخي للفانوس المصري، رغم أنهم يعملون بأقلّ الإمكانيات والأدوات، لكن المهارة والحرفية هما المعيار الأهمّ.

يقوم الشخص الواحد بتصنيع فانوس كل 20 دقيقة تقريبا، بغض النظر عن كونه نحاسيا أو خشبيا أو بلاستيكيا أو حتى زجاجيا، وإن استضافك أحدهم في ورشته الصغيرة، وانهمك في الحديث حول أسرار المهنة وتاريخها لا تتوقف يديه عن العمل، فهو لا يملّ، بل يتغزل بالفانوس الذي يمثّل له “حكايات وذكريات ومواقف تاريخية”.

لا يعبأ أبناء المهنة بالتراجع الملحوظ في حركة البيع، بل هم يستمرون في الإنتاج والعرض على أمل خفض الإجراءات الحكومية لمواجهة كورونا قبيل شهر رمضان، والسماح للناس بمزيد من حرية التنقل والتجمّع، تراهم يتابعون أخبار وتصريحات المسؤولين عن الأزمة.

يرغب أصحاب الحرفة في أن يُعيد الناس اكتشاف تراثهم الثقافي والتاريخي المرتبط بشهر رمضان بأقلّ ثمن، لدرجة أنهم يبيعون الفوانيس بأسعار زهيدة تبدأ من عشرة جنيهات (63 سنتا)، ويصل السعر إلى 200 جنيه (12 دولارا)، لإقناع الفئات التي استغنت عن الرفاهية لادخار المال للسلع الضرورية والأساسية في الأزمة الراهنة، باقتطاع جزء بسيط لشراء مستلزمات البهجة الرمضانية.

رواج محفوف بالحظر

شخصيات من التاريخ
شخصيات من التاريخ

يقول طلبة مجدي، أحد أقدم أصحاب الورش الخاصة بصناعة زينة رمضان بمختلف أشكالها، “نحن نبيع بسعر التكلفة، أو يزيد قليلا، حتى نتخلّص من كل البضائع الموجودة في المخازن، هذا موسم استثنائي بالنسبة لنا، ونعوّل على المتاجر التي تنتشر في الشوارع والميادين”.

أكثر ما يثير استياء محترفي المهنة، أن الاختفاء الواضح للبضائع الصينية من الأسواق تزامن مع إجراءات احترازية جعلت وصول الناس بكثافة عددية إلى المنطقة أمر صعب، كما أن غلق المتاجر والورش يكون بداية من الساعة الخامسة مساء.

يؤكد طلبة، أن كل صاحب ورشة يتعامل مع الأمر على أنه معركة بقاء، وتغريه حركة الأفراد في هذه الحارات الضيقة، حتى لو كانت بغرض التسكع ومشاهدة المعروضات والاستفسار عن الأسعار، لكنه يعتبرها خطوة من ألف ميل لاستعادة القاهرة القديمة الهيمنة من الصين.

في أزقة ضيقة، تشعر باستمرار حمية العمل في الورش التي قاومت الاندثار، ويبدو المشهد وكأن ما يحدث أقرب ليوم عيد، يقوم فيه صاحب كل ورشة أو متجر بتزيين الفانوس في أبهى صورة ليخرج إلى الجمهور بصورة مبهجة، على أمل أن تزيد نسبة البيع.

يتحسّر ناصر محمد، صاحب الـ65 عاما، على هذا المشهد، ويقول، “تخيّلوا لو أن كورونا جاءت دون حظر تجوال أو خفض تجمّعات مع اختفاء الفانوس الصيني، لكن ما زال الأمل معقودا على الحكومة أن تسهّل مهمة الناس في الشراء وزيادة حركة البيع”.

يعود الرجل بذاكرته إلى سنوات خلت، عندما كان الفانوس المصري دون منافس، قبل أن يتجه التجار لاستيراد الصيني بكميات ضخمة، حتى تهاوت المهنة، وجرى غلق العشرات من الورش، ولجأ أصحابها إلى حرف أخرى، إلى أن جاء كورونا ليُعيد الأمور إلى نصابها.

هناك سلع أخرى كانت ضحية فتح الأسواق المصرية على مصراعيها للمنتجات الصينية المرتبطة بشهر رمضان، مثل “طبلة السحور” التي يتمّ تصنيعها من الجلود، والوسادة المزخرفة بالرسومات الرمضانية، وبضائع أخرى يتمّ تشكيلها على هيئة هلال.

لا ينكر ناصر، أنه كان لديه ثلاث ورش لتصنيع الفوانيس ومستلزمات الزينة في رمضان، لكنه قبل عامين، أغلق اثنتين واكتفى بواحدة، ولجأ إلى فتحهما مرة أخرى منذ شهرين بعدما أصبح الفانوس المصري وحده صانع البهجة في رمضان، يقول، “لن أكرر عملية الغلق، ربما في المستقبل تستمر الصدارة للمنتج المحلي”.

لا يحتاج الأمر إلى قياس جماهيرية الفوانيس الصينية عند أصحاب الورش الواقعة في هذه الأزقة التاريخية، لأنه بمجرد الإشارة إليها بأي كلمة تتغير لهجة الحديث الهادئ وتكسو الوجه علامات الغضب وترتفع نبرة الصوت لمستوى قياسي.

أشكال وألوان زمان

الحفاظ على الفانوس المحلي يبدأ من تعليم الأجيال الصاعدة فنون المهنة ودهاليزها من شراء المستلزمات واستخدام آلات التصنيع والتطريز والتغليف
الحفاظ على الفانوس المحلي يبدأ من تعليم الأجيال الصاعدة فنون المهنة ودهاليزها من شراء المستلزمات واستخدام آلات التصنيع والتطريز والتغليف

أدخل البعض إضافات تستهدف جذب الجمهور إلى المنتج المحلي مع الحفاظ على الهوية المصرية بتصميم فوانيس مضاف إليها شرائح صوتية تحمل أغاني رمضان الشهيرة والتاريخية، مثل “وحوي يا وحوي”، “رمضان جانا”، “مرحب شهر الصوم مرحب”، مع أنوار زاهية بالداخل، في محاولة لتغيير الصورة الذهنية عن الفانوس المصري بأنه هيكل صامت بعكس الصيني الذي يُغني ويتحرك ويتراقص.

جرى ابتكار أشكال جديدة من الشخصيات التاريخية التي ارتبطت في ذاكرة المصريين بشهر رمضان، مثل “بوجي وطمطم” و”عمو فؤاد” (الفنان فؤاد المهندس) و”فطوطة” (الفنان سمير غانم) و”عم شكشك” و”عالم سمسم”، ويضاف إليها أصوات غنائية.

هذه النوعية من المجسّمات الكرتونية كان يتم استيرادها حتى أصبحت تُصنع محليا، وتستهدف جذب الأطفال لتنشيط حركة البيع، إلا أن بعض محترفي المهنة لا يرفضون تصنيع أشكال جديدة من الفوانيس بمزايا خاصة، إذا طلب المشتري التصميم بطراز معيّن.

صحيح أن الفانوس المحلّي شكله معروف ومحفوظ، لكن أصحاب الورش أضافوا إليه أشكالا جديدة تناسب الأذواق المختلفة للجمهور، فهناك تصميمات يُكتب عليها عبارات محددة إذا رغب المشتري في ذلك، وأخرى يتمّ نقشها برسومات جمالية تناسب طبيعة الشخص، فمثلا، إذا أراد تقديم الفانوس كهدية إلى زوجته أو حبيبته، يمكن كتابة اسمها أو إضافة صورتها في الداخل، مع إحاطتها بالزجاج وإضاءتها بالأنوار.

ميزة أبناء المهنة في القاهرة الفاطمية، أنهم يحفظون تاريخ الفانوس المصري عن ظهر قلب، إذ ورثوا قدسيته ورمزيته عن أجدادهم، لذلك تشعر بأنهم يغارون عليه وكأنه أحد أبناء الأسرة، ويتحدثون عنه بطريقة كما لو كان عشقهم الأول والأخير.

يقول عاطف حمدي، وهو شاب في الأربعينات، عندما كان يقوم بنقل الفوانيس من الورشة إلى محلّ البيع، “مكسب أصحاب الورش والباعة يرتبط بإعادة الناس ذكريات الآباء والأجداد في استقبال شهر رمضان، ومنها الفانوس المحلّي الذي كان أحد معالم البهجة طوال أيام الصيام”.

ببب
حس فني

أغلب أبناء المناطق المعروفة بهذه الصناعة لا يريدون اندثار المهنة، وحاولوا استثمار فرصة توقف الدراسة كأحد إجراءات الحكومة للحد من انتشار كورونا، وقاموا بتعليم أبنائهم أسرار الحرفة.

يقول حسن شاهين، صاحب الـ70 عاما، “الحفاظ على الفانوس المحلّي يبدأ من تعليم الأجيال الصاعدة فنون المهنة ودهاليزها، ما يجعل أغلب من

ورثوها عن أجدادهم ينقلون خبراتهم للأبناء، وقد تجد آباء يستعينون بالصغار في التصنيع، وهم أولادهم وأحفادهم، وغالبا ما تكون البدايات بتعريفهم أماكن شراء المستلزمات، ثم طريقة استخدام آلات التصنيع والتطريز والتغليف والتوريد”.

تمثّل مناطق شهيرة في وسط القاهرة، مثل الجمالية والدرب الأحمر والسيدة زينب، نقاط مركزية لتصنيع وتوزيع الفوانيس لعموم مصر، لذلك يصنّف أصحاب الورش أنفسهم على أنهم خط الدفاع الأول في مواجهة الفانوس الصيني، وإذا لم يبادر كبار أبناء المهنة بتوريثها، فإنهم يكتبون شهادة وفاة الصناعة المحلية بأيديهم.

يتغير الجهد المطلوب في تصنيع الفانوس حسب النوع، وتظل الخيامية منها، الأكثر سهولة في التصميم، حيث تتألف من أعواد الصاج ذات السُمك الرفيع، ويتم تشكيلها دون عناء ثم تغطيتها بقماش الخيامية الشهير بطريقة الحياكة اليدوية مع إضافة بعض الإكسسوارات والحبال الملوّنة لتزيينه بشكل مبهج تتداخل فيه الألوان الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء.

انعكس خفوت نجم المنتجات الصينية التي ترتبط بزينة رمضان على عودة رواج فن الخيامية العريق بعد سنوات من الكساد نتيجة اختفاء حركة السياحة. هناك في شارع الخيامية الواقع أمام باب زويلة التاريخي، تشعر بحركة كانت مفقودة أعادت لأصحاب الورش والمحالّ بعضا من الطمأنينة على أن المهنة لن تواجه خطر الانقراض.

يرتبط استمرار رمزية الخيامية كفن تاريخي بأن قرابة نصف أعداد الفوانيس المصنّعة محليّا، يتم تغليفها وتزيينها وكسوتها بالأقمشة الملونة لتخرج في شكل ممزوج بالأنوار المختلفة.

تختلف الخيامية عن غيرها من المهن، لكونها تعتمد على الصبر وإجادة صاحبها فن العمل اليدوي وتناسق الألوان حتى تخرج قطعة القماش في شكلها النهائي على هيئة لوحة فنية رائعة، يتم تقسيمها إلى أحجام صغيرة يتمّ من خلالها تغليف الفوانيس بمواد لاصقة، حتى أن أجزاء الأقمشة التي تزيد عن حاجة الفانوس لا يتمّ إهمالها، بل بيعها على هيئة زينة يتمّ تعليقها في المنازل، لتعيد إليها بساطة أيام زمان.

كانت صناعة الخيامية تعتمد حتى وقت قريب على عمليات البيع المرتبطة بسرادقات الأفراح والعزاء وإقامة الموائد الرمضانية وشراء السياح لهذه الأقمشة المطرزة بشكل محترف.

لأن كل هذا لم يعد متاحا، لم يعد أمام أبناء المهنة سوى تعويض الخسارة من خلال استعادة الفوانيس المحلية صدارتها ولو بحركة بيع أقلّ، ويكفي أنّ أكثر المعروض منها بالأسواق المحلية ممزوج بالذوق الرفيع والحس الفني الذي طرزه صنّاع الخيامية بحرفية.

20