الغناء ودوره في التعريب
لا أشك في أن هذا العنوان، ومن ثم في ما يتضمن من فكرة، هي ما لعبه الغناء من دور في التعريب في أقطار المغرب العربي، وبخاصة في المغرب والجزائر، سيستفز غير واحد ممن يجانبون التعريب أو ممن يساندونه ويعملون من أجله.
لكنني، وكما اعتدت في ما أكتب، أبتعد عن التنظير والأفكار المجردة، وأحاول أن أستنبط من الواقع معطياته، فإن أصبت في ما أذهب إليه فذلك يسعدني، وإن لم أُصِبْ، فأفتح كوة للحوار، مهما كانت ضيقة، فذلك ما ينفع في أن نكون في فضاء معرفي أوسع.
من لفت نظري إلى هذا الموضوع للمرة الأولى، هو المحامي والمثقف الراحل محمد عمر الفاروقي، أيام كنت أقيم في الرباط في أواسط سبعينات القرن الماضي، إذ قال لي: كان تعليمي بالفرنسية، وكنت أتحدث الدارجة المغربية، غير أنني كنت مولعاً بأغاني محمد عبدالوهاب، التي لحنها وغناها من شعر شوقي وبشارة الخوري وصفي الدين الحلي وعلي محمود طه وغيرهم، ومنها كانت إحدى إطلالاتي المهمة على العربية الفصحى.
وفي السنوات الأخيرة، قال لي صديقي الروائي المغربي أحمد المديني، إن كاظم الساهر اقتحم قلاع الأرستقراطية المفرنسة، بما غنّى من قصائد شعرية لنزار قباني.
وقد قرأت يوماً أن السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت تقمع الأغاني ذات الطابع المحلي في أقطار المغرب العربي، وتحاول التضييق على مجالات انتشارها، لأنها تغنى باللغة العربية أو باللهجات المحلية، وهي عربية على الأغلب، هذا أولاً، وثانياً لأنها تعبر عن الروح الوطنية والتوجه القومي والقضايا الاجتماعية، وهذا أمرٌ لا أستطيع تأكيده أو نفيه، وقد مرَّ بي في مقالة صُحفية، قرأتها منذ زمن بعيد.
غير أن الزجال والملحن المغربي محمد بن علي، الذي التقيت به في النصف الأول من شهر أكتوبر خلال مهرجان الشعر في مدينة البليدة بالجزائر، والرجل على اطلاع واسع على كل ما يتعلق بالغناء العربي، قد أكدَّ لي هذه المعلومة، وخلال حواراتي معه أفدت كثيراً منه، ومما يؤكده أن كل ما استمعنا إليه من غناء خلال أيام مهرجان البليدة الشعري يغنى بنص عربي واضح، سواء كان من الفصحى أو من الدارجة المحلية، وكنا نتواصل معه دون عسر.
إن الأغنية المغاربية نتيجة عدد من المصادر الغنائية، يمكن أن نعد المؤثر الأهم فيها هو التراث الأندلسي، بكل ثرائه الموسيقي وتعدد مقاماته اللحنية وإيقاعاته، وهو كما يقول المختصون نتاج تلاقح حضاري وموسيقات مختلفة، نشأ في رحابها، وكان الإرث الموسيقي المشرقي كبير التأثير فيها، وهنا لا بد من أن نتوقف عند كل ما قيل عن زرياب وتأثيره في الموسيقى والغناء في الأندلس.
ويقف فن الملحون الغنائي إلى جانب الغناء الأندلسي في حضوره وتأثيره، ويُغنّى عادة بالشعر المكتوب بالدارجة، غير أنها دارجة مفصحة، تقبلها الأذن العربية بيسر. أما المؤثر الآخر فهو الغناء الديني، الذي أفاد من منع الغناء والموسيقى في عهد حكم السعديين، فتمثل تراثاً غنياً وانفرد به، وحقق إنجازاً مهماً ومتميزاً، وما زال يُغنّى بالشعر الفصيح أو الدارجة المفصحة، ويدخل في حيز الأغنية الدينية الغناء الصوفي، الذي كان الأساس في ظهور المجموعات الغنائية الحديثة التي تمثلت جميع هذه المؤثرات، ومنها التقليد الأندلسي الذي كان يشترط على المؤدي والمغني أن يكون عازفاً على إحدى الآلات الموسيقية.
وحين ظهرت الأغنية المغاربية الحديثة، التي أفادت من جميع هذه المؤثرات، كانت أغنية عربية في نصها وألحانها، من دون أن تفقد خصوصيتها المحلية، فكانت عاملاً من عوامل التعريب، كما شكلت إضافة مهمة إلى الموسيقى العربية الحديثة.
كاتب عراقي